يعاني الاقتصاد الأوروبي أزمة لم يعانِ مثلها منذ أزمة ثلاثينات القرن العشرين. وتصيب الأزمة أسواق المال والنقد وسوق العمل. ويقتضي العلاج المناسب تشخيصاً دقيقاً لطبيعة المصاعب التي تعترض طريقنا. والحق أن التشخيص موضوع اختلاف ولا يلقى إجماعاً. والتوافق على مسؤولية الدائرة المالية يُحمل على وجهين وقراءتين. فمجموعة العشرين تلقي المسؤولية، منذ قمة واشنطن، في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، على «انحرافات» النظام المالي وحدها. ولائحة الأفعال المنحلة بانتظام الدائرة المالية، تثير كثرتها الدهشة: فمن غموض المنتجات المشتقة وعوائد الوسطاء الضخمة والجنّات الضريبية الى معايير المحاسبة غير المناسبة وعوامل الضبط المتعثرة ووكالات التصنيف المغرضة والسياسة النقدية المتواطئة، تطول اللائحة وتتشابك بنودها. ويخلص التعليل الأول هذا الى اقتراح اصلاحات على عدد مواضع الخلل، ترمي كلها الى تطهير الدائرة المالية من نزعات الإفراط التي تعتريها. وعلى هذا، فأولوية الأسواق المالية لا جدال فيها، وقصارى الاصلاحات ضبطها في اطار منافسة شذبت من انحرافاتها. وتبقي المعالجات المقترحة، الرأسمالية المالية التي غلبت طوال الأعوام ال30 المنصرمة، وتقرها على غلبتها. فهي، كما ترى مجموعة العشرين، البنية المواتية والمناسبة. وما أشك فيه، وأرى أنه مصدر الخلل، هو افتراض أن الاسواق المالية الشفافة تتيح توزيعاً مناسباً وعادلاً لرأس المال الاستثماري. يقود هذا الى القول إن الاسعار المالية ليست قرائن يصح اعتمادها، وليس في مستطاع أصحاب القرار الاقتصادي الوثوق بها. وضعف صدقية الأسعار المالية هو مصدر الاختلال الذي نشهده، على الصعيد الاقتصادي الجزئي وعلى صعيد الأبنية الاقتصادية الكلية، معاً. وإذا صدق هذا التشخيص ترتب عليه وجوب التخلي عن الرأسمالية التي تغلّب أسواق المال على القطاعات الأخرى، وتعهد بالدور المركزي في ضبطها الى أسواق المال وتسعيرها الرساميل والاستثمارات والتسليفات. ويستحسن لفهم هذا الرأي، ألا نغفل عن أن الاسعار هي قلب ضبط الاقتصاد وانتظامه. وصواب هذه الاسعار وصدقها هما ضمان اقتصادات السوق ومعيار عملها وفاعليتها. وفي مقالة شهيرة كتبها، في 1945، برهن عالم الاقتصاد فريدريش فان هاييك على أن أصحاب القرار الاقتصادي ليسوا في حاجة الى إلمام شامل بالاقتصاد من كل وجوهه، فالقرينة الحاسمة هي تلك التي تنطوي عليها الأسعار. وصاحب القرار تقتصر معرفته على بيئته المباشرة. وتتولى الأسعار دمج المعلومات الموضعية والميدانية المباشرة في تقويم جامع ومتماسك. ويمثل فريدريش هاييك على قوله بمادة أولية أو خامة تقلص عرضها على السوق. فالاقتصاد يتكيف مع الحال الجديدة على رغم اقتصار العلم بتقلص العرض وندرة المعروض من الخامة، على أفراد قلائل. وتضطلع الأسعار بالدور الحاسم في تنسيق السوق ومبادراتها وأفعالها، ولا يقتضي التنسيق إلماماً أو إحاطة بأحوال الاقتصاد. وهذا من نتائج نظرية آدم سميث الاقتصادية. ويلاحظ أن هذا التحليل النظري اقتصر، أولاً، على أسواق السلع العادية والعينية، ولم يطاول الاسواق المالية إلا منذ وقت قريب. وهو يعود الى السبعينات التي مضت تحت اسم نظرية الجدوى المالية، وعاصر تحرير الخدمات المالية وسوقها. وافترضت الاسواق المالية طاقة أو قدرة على تحديد الاسعار الحقيقية والمناسبة، وباسم هذه الطاقة ساد معيار تحرير الخدمات المالية وأسعارها، وهو مرجع الرأسمالية المالية. ويبدو تحرير أسعار الخدمات المالية، في ضوء تاريخ مديد للرأسمالية، استثناءً. فإلى سبعينات القرن العشرين كان معظم أسعار الفائدة بموجب تسعير الدولة الرسمي. وتذهب نظرية الجدوى الى أن الاسعار المالية، شأن اسعار السلع التي هي مرآة الندرة الموضوعية، صورة أمينة عن الأخطار المتوقعة في الغد القريب. وعلى ذلك، فأسعار البورصة هي تعبير عن ربحية الشركات المتوقعة، وأسعار الفائدة هي ميزان احتمال عجز المقترضين عن التسديد. وهذا ما يبدو لي ضعيفاً ومردوداً: فالمنافسة المالية عاجزة عن تقويم النشاطات الانتاجية تقويماً صحيحاً، سواء كانت الأسواق شفافة أم قليلة الشفافية أو صفيقة. ولعل المثل الواضح والصادق على هذا القول هو أسعار الفائدة على ديون الدول الاوروبية. وفي هذا المعرض، لا يسع أحداً التشكيك في شفافية سندات الدَّيْن هذه ولا في سيولتها. وعلى رغم هذا، فمحصلة عمل الاسواق في هذا المضمار لا تدعو أبداً الى الثقة والاطمئنان. فالأسواق لم تنفك ترتكب الخطأ تلو الخطأ، كما يدل حصاد الماضي من غير شبهة. فمنذ إقرار العملة الاوروبية الى 2007 - 2008، يلاحظ أن الاسواق أغفلت الأخطار السيادية إغفالاً كاملاً، وتساوت أسعار الفائدة على بلدان منطقة اليورو، ألمانيا شأن اليونان، على سعر واحد ومشترك. ولا ريب في أن الاسواق أظهرت قصر نظر فاضحاً، ولو أنها ميزت أسعار الفائدة بعضها من بعض، وفرّقت بينها، لنبّهت بعض الاقتصادات الى مغبّة الافراط في الاستدانة. لكن الأسواق لم تضطلع بالدور الذي تنسبه إليها نظرية الجدوى، وهو إعلام أصحاب القرار بأحوال الاقتصاد. يتكرر اليوم الخطأ ذاته، ويلاحظ تفاوت كبير بين أسعار الفائدة في منطقة اليورو، من غير مسوّغ حقيقي لهذا التفاوت. ومستويات أسعار الفائدة قاصرة عن تقويم أخطار عجز البلدان عن التسديد تقويماً صحيحاً وصادقاً. وإذا استثنينا اليونان من التحليل، وكثرة المستثمرين والدائنين ترى أنها عاجزة عن التسديد، يرى معظم الاقتصاديين أن اسعار الفائدة غير مناسبة ولا عادلة. ويسوّغ هؤلاء رأيهم بالاسباب الآتية: يترتب على هذه الاسعار اقتطاع شطر ضخم من الثروة الاجتماعية لا يعقل اقتطاعه، أولاً، وهي تدعو الى انتهاج سياسات تقشف مفرط، ثانياً، وتحمل اقتصادات قادرة على التسديد على الافلاس، ثالثاً. وعليه، فأخطارها شديدة الوطأة. وما تقدم للتو في شأن أسعار الفائدة يصح تعميمه بيسر على الأسعار المالية كلها. إذ تنجم عنها على الدوام محفزات سيئة تقود الاقتصادات الى الهاوية، على ما نرى اليوم من أحوال مديونية الدول. وفي مضمار الاسهم، لم ينسَ المراقبون فقاعة أسهم شركات الانترنت والازمة التي أعقبت انفجارها مطلع العقد الأول من القرن الواحد والعشرين. وذريعة ضعف الشفافية لا تصح في هذا المضمار كذلك. وهي لا تصح في أسعار صرف العملات التي تشهد فروقاً واسعة لا علاقة لها بالمعطيات الموضوعية. وعموماً، تستجيب البورصات منذ نحو عشر سنين معيار مردودية («ريتُرن أوف إيكويتي» الشهير) يثقل على الاستثمار والنمو. وفي ضوء هذه الوقائع، لا مناص من الخلوص الى أن أسعار أسواق المال ليست قرائن تستحق الثقة، ولا تدعو الى الاطمئنان. ولا تقيد قوة استئناف ضررها، على خلاف ما يحصل في أسواق السلع العينية العادية. فأسعار المال قد تتعاظم وترتفع الى مستويات عالية جداً من غير أن ينضب الطلب عليها، ذلك أن في مقدور المستثمرين استباق زيادة الأسعار على نحو يبرر مشتريات جديدة. وعلى الصورة ذاتها، يسع الأسعار الانخفاض من غير تحفيز طلب يكبح الانخفاض، كما رأينا في أزمة 2008. فأسعار المشتقات هبطت الى مستوى أدنى بكثير من المستوى الذي يسوّغه تقويم عقلاني، وعلى رغم هذا لم يبعث التردي الكبير طلباً مناسباً. ويعود هذا الى خشية المستثمرين من تمادي التردي والانخفاض. فانتهى النظام الى شفا الافلاس العام. ولم ينجم كبح هبوط الأسعار عن الفضائل المفترضة للانتظام الذاتي، والتي تتمتع بها تنافسية السوق على زعم كان سائداً الى وقت قريب، بل هو نجم عن إقدام السلطات العامة على الشراء تفادياً لانفجار الأزمة. ويقود الاختلاف على تشخيص طبيعة الازمة إلى اقتراح سياسة غير سياسة مجموعة العشرين، سائقها ضرورة تقييد الاسواق المالية ودورها، وذلك في ضوء تقرير مسؤوليتها عن تسعيرٍ وتقويمٍ كانا السبب في كوارث مشهودة. فالشفافية المالية ليست حلاً لمشكلاتنا. وتقضي الضرورة بتقويض غلبة الأسواق المالية على الاقتصاد. ويفترض هذا عملاً معقداً وواسعاً، وثورة فكرية تراجع اعتيادنا، في أثناء العقدين الماضيين، التسليم لتقديرات الأسواق وتقويمها. فلا مناص من فك قبضة القيمة المالية على الاقتصاد والسياسات الاقتصادية. وهذا يفترض نصب مراجع تقويم خارج الأسواق، يتولاها أصحاب الأعمال والنقابات والسلطات العامة والجمعيات، وتقوم باقتراح غايات تواتي المصلحة العامة ووجوهها النقدية والصناعية والبيئية. وشراء المصرف المركزي الدَّيْن العمومي، اليوم، معناه تبني المصرف تقويماً يخالف تقويم الاسواق. ولا يُغفل عن أن هذا التحول لن يؤتي ثماره إلا إذا نظمت شبكات تمويل الاقتصاد على وجه يؤدي الى تقليص دور أسواق المال وضموره. * مدير بحوث ودراسات، رئيس الرابطة الفرنسية للاقتصاد السياسي، صاحب «سلطان القيمة» (2011)، عن «لوموند» الفرنسية، 6/12/2011، اعداد منال نحاس