يبدو أن رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي اكتشف أن الضيق هو ما يصنع زعيماً في لبنان وليس السعة ولا الدعة. ويبدو أيضاً أن هناك قراراً أُخذ بإتاحة هذه الفرصة للرجل، وأن ظروف الخصوم في الوطن الضيق وفي الطائفة الواسعة تساعد على ذلك. ليست إتاحة الفرصة له بتمويل المحكمة الدولية ما نعنيه هنا، إنما أيضاً تصويره بصفته مبدد آمال العماد ميشال عون، الخصم الشكلي للطائفة السنية. إذاً «نصر» على الخصم الجوهري تلاه «نصر» على الخصم الشكلي، حققهما ميقاتي في أقل من أسبوع، ولهذه «الانتصارات» أثمان طائفية في لبنان يُنتظر أن ينالها الرجل، ويجري ذلك في ظل احتقان طائفي غير مسبوق، وفي ظل حدث سوري يضاعف هذا الاحتقان، وأيضاً في ظل قرار يبدو أن «حزب الله» قد اتخذه ويتمثل في تصعيد انحيازه إلى النظام في سورية. وربما كانت وراثة ميقاتي الطائفة السنية، وهو ما يسعى إليه الرجل وما يساعده عليه «حزب الله» ومن ورائه سورية، حدثاً من خارج منطق ما يجري في معظم مناطق إقليمنا البائس. فخلف الحدود اللبنانية تتولى عملية وراثة الأنظمة جماعات لا تشبه ميقاتي، لعل أبرزها جماعة الإخوان المسلمين الذين يشكلون اليوم علامة المرحلة المقبلة، بدءاً من تونس وليبيا والمغرب مروراً بمصر ووصولاً إلى الأردن، وتبقى سورية سراً على هذا الصعيد، وإن كان إخوانها حاضرين للوراثة. لماذا يبدو لبنان استثناء على هذا الصعيد؟ التنوع الطائفي لا يلغي التساؤل، ذاك أننا نعني بسؤالنا الطائفة السنية فيه. فالقوى السياسية الممثلة لهذه الطائفة تبدو اليوم منهكة ومترنحة بفعل الضربات التي تلقتها من «حزب الله» ومن سورية، وفي الوقت ذاته لم تفضِ هذه الضربات إلى تعديل في موقع هذه الطائفة في المعادلة الداخلية، على نحو ما أصاب المسيحيين بفعل خسارتهم الحرب الأهلية. فهل يمكن والحال هذه أن يرث ميقاتي «طائفته»؟ المشهد اللبناني والعربي الراهن لا ينبئ بذلك، على رغم ما كسبه ميقاتي نتيجة ضعف خصومه. فعلى المستوى الداخلي يبدو أن حالة الاستقطاب الشديدة ترشّح جماعات أخرى للوراثة. جماعات بدأت تُطل من الحواضر السنية مفتتحة زمناً سنياً جديداً في لبنان. فالقول الشائع الذي كان يحلو لنخب هذه الطائفة أن تردده، وهو عبارة مقفلة لا يبدو ان من الممكن تصريفها اليوم في غير رأس بيروت، ونعني بها: «نحن أهل اعتدال»، هذه العبارة لا يمكن تصريفها اليوم. خُطب الأمين العام ل «حزب الله» واستباحة بيروت في يوم عاشوراء أقفلت الباب في وجه «أهل الاعتدال». وعلينا أن نرصد من الآن فصاعداً توسعاً في ظاهرة الشيخ أحمد الأسير في صيدا، وهو رجل الدين الجديد الذي يشبه السلفيين من دون أن يكون سلفياً ويشبه الإخوان المسلمين من دون أن يكون إخوانياً، ولا يتورع عن استحضار الطقس الطائفي والمذهبي في سجال خصومه ليس في «حزب الله» فحسب، إنما أيضاً في حدائق التاريخ الشيعي. المشهد في المنطقة يعزز هذه التوقعات، فالإسلاميون يتقدمون على معظم محاور الثورات، ولبنان وإن كان من دون ثورة، فإن المد الإسلامي لن يستثنيه. وبما أننا حيال تجربة إخوانية ضعيفة في لبنان، فإن الإطار الجاهز الذي اعتمدته مجتمعات الثورات ليس جاهزاً عندنا. ظاهرة غامضة من نوع ظاهرة أحمد الأسير ستتولى التعويض عن هذا النقص، وستتولى ظواهر مشابهة في طرابلس وفي إقليمالخروب والبقاع مهمة التعويض أيضاً، على أن تبقى بيروت في منأى عنها. لهذه الأسباب يبدو أن مساعي «حزب الله» الهادفة إلى تسهيل مهمة وراثة ميقاتي الطائفة السنية بلا جدوى. فالحزب يساعد الرجل من جهة لكنه أيضاً يساعد الورثة الآخرين. يتيح لميقاتي تمويل المحكمة لكنه يتيح للأسير مزيداً من المصلين في مسجده في شرق صيدا. أما الوقائع السورية، وما يتسرب منها إلى لبنان، فيبدو أن مراقبة البيئة المتضامنة التي تستقبلها ستأخذنا إلى احتمالات جديدة. فهناك في عكار وفي مناطق البقاع تنشط جمعيات إغاثة من خارج بيئتي «المورِث» و «الوريث» المفترضين. جمعية البشائر التابعة للجماعة الإسلامية (الإخوان المسلمون اللبنانيون) حاضرة على نحو يفوق حضور الجماعة في الحياة السياسية اللبنانية، وهمّة الجماعات السلفية في مجال الإغاثة ارتفعت، والهيئات الأهلية الملتبسة الهوية استيقظت على الحملات الإغاثية. يميل المرء إلى ترجيح احتمال ولادة «مارد لبناني جديد» من بين هذا الحطام. كل الظروف مهيأة لهذه الولادة. في المحيط العربي أشقاء له، وفي الداخل اللبناني محفزات، ومشاعر إحباط تكفي لولادة ما هو أشقى منه، وخطاب ل «حزب الله» يلح في طلب هذه الولادة. لكن وبما أننا حيال كائن هلامي لا شكل له ولا وظيفة محددة، فإن احتمال أن يبدأ مهماته على وقع الحدث السوري وعلى وقع قرار الحزب الانقضاض مجدداً على الوضع اللبناني، يجعل التشاؤم أمراً واقعياً. فالصورة ستكون على هذا النحو: الأميركيون ينسحبون من العراق بعد معركة خاضتها أطراف سنية معهم وربحتها أطراف شيعية. وسورية ستكون مضطربة في حال نجح النظام في تحويل الانتفاضة إلى حرب أهلية. ولبنان يترنح في ظل سطوة «حزب الله». فأي مولود سيجود به علينا هذا المشهد القاتم؟