عقود من الزمن وهم يعانون حياة الاضطهاد والإقصاء والتشويه، تمالأت عليهم الأنظمة الحاكمة، ورمتهم عن قوس واحدة، واستعدت عليهم الشعوب بكل سبيل، لم تألُ جهداً في ذلك، فقد استخدمت وطوّعت أقوى الوسائل تأثيراً وأمضاها سلاحاً: الإعلام بصحفه وإذاعاته وقنواته. وهل شيء أخطر تأثيراً من الإعلام؟! ثم جاء الربيع العربي الطويل ليثبت أن تلك العقود الطوال من الاضطهاد والتشويه والتنكيل إنما هي خريفٌ مصفر، لا ينبت فيه كلأ، ولا يثمر فيه شجر، ولا تورق فيه أغصان، ولا يزهر فيه نبت، فكانت جهود تلك الأنظمة هباءً منثوراً، وعادت الحركات الإسلامية مرشّحاً قوياً للرئاسة كأن لم يصبها أذى واضطهاد، ولم تزد الناسَ هذه الحربُ الضروس على الإسلاميين إلا ثقةً بهم وبمشروعهم. الإسلاميون قادمون في مصر وفي تونس وفي المغرب، وقريباً في سورية وليبيا واليمن، قادمون بالطريق الذي اختطّه غيرهم، وأرادوه طريقاً وحيداً للحكم، فلماذا الآخرون منهم غاضبون؟! هم قدّموا مشروعهم، والناس ارتضته ووثقت بهم. لم يكن هناك إكراه، ولا إرهاب، ولا تزوير، كما فعله غيرهم من أزلام العلمانية الذين حكموا الناس بالحديد والنار والإرهاب والتعذيب والإقصاء والتزوير، ومضت عقود كان يكفي منها عشرها لتستيقن الشعوب المغلوبة على أمرها فشل تلك الأنظمة العلمانية الحاكمة بقوة السلاح، فلتجرِّب الشعوب غيرهم، أليس لها حقٌ في هذا بالطريقة الديموقراطية المرتضاة من الجميع؟! إن لمنافسيهم أن يقولوا: إن مشروع هذه الحركات الإسلامية ليس هو الإسلام؟! هذا صحيح؛ لكن حسبهم أنهم أشد مقاربة للإسلام، وأنهم يجتهدون وسعهم في إعمال نظامه، ومن هنا جاءت صبغته الإسلامية، ومساحة الاجتهاد فيما كان من باب سياسة الدنيا واسعة، الأصل فيها الإباحة إلا ما عارض أصلاً شرعياً صحيحاً محكماً، وهل يساوى بين من يتوقّى مصادمة محكمات الشريعة في سياسة دنياه ومن يصادر أحكامها عناداً وبغضاً، ويعمل في تشريع قوانين تصادمها مصادمة ظاهرة؟! إن حمل المسؤولية على هذه الجماعات المنتخبة لكبير، وليس الأمر بالهين، وفوزها في الانتخابات هو بداية الابتلاء، وليس هو تمام التمكين، وهم جديدون على هذه التجربة، والممارسة عمل بشري صرف، والإخفاق وارد، ولو قُدِّر ذلك فالثقة في الشريعة باقية. ومن حاد عنها، أو جعلها سُلماً يصل بها لمصالحه فيجب أن يجرّد من الثقة والتأييد؛ غير أنه لا يجوز أن يُطعن في النوايا من غير أن يكون هناك سلوك مشين يدل على سوء الطوية، كما قال عمر رضي الله عنه: «إنه قد انقطع الوحي، وإنما نؤاخذكم بما ظهر لنا من أعمالكم، ونكل سرائركم إلى الله». إن استباق الحدث بالطعن في النوايا من غير بينة ظاهرة عمل مرذول يمارسه العاجز الذي ضعفت حجته ولم يحظَ بالقبول، فلم يملك سوى الطعن في نوايا من غلبه صوتاً وتابعاً. إن مراعاة الأولويات والتدرج في إعمالها ضرورة تقتضيها المرحلة، وهذه المراعاة لا يصح أن تحسب من تبديل الشعارات، ونقض الوعود، ولا من النكوص عن تطبيق الشريعة، أو الانهزامية. وأولى ما ينبغي أن تُعنى به الأحزاب الظافرة بالحكم ولو بالأغلبية محاربة الفساد والاستبداد والظلم وحماية حقوق الإنسان، وهذا محسوب بلا شك من إعمال الشريعة. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]