في ثورة مصر والياسمين التونسية دروس وعبر، وعِبرُها للأنظمة والحكومات أكثر منها للشعوب، فالاستقرار النسبي الذي يوحي للأنظمة بكثير من الطمأنينة والارتياح ليس دليلاً كافياً على أن الشعوب لا تعيش حال احتقان يوشك على الانفجار والخروج عن حدود السيطرة، وأن لحظة انفجار تلك المشاعر الساخطة المكبوتة ربما تأتي لأهون سبب، فتكون بمثابة القشّة التي قصمت ظهر البعير. إن إحراق البوعزيزي نفسه - غفر الله له - لم يكن الوقود الذي أوقد الثورة اللاهبة؛ ولكنه كان الشرارة التي انفجر بها وقود الثورة المحتبس سنين عدداً. والكبت إذا تتابع ولّد الانفجار، والانفجار نفسه قائم على عامل السرعة، ولا يتصور أن يأتي الانفجار في صورة بطيئة، وإرهاصاته أيضاً قد لا تكون ظاهرة طافحة على السطح، وكل هذا مما يجب أن تفهم منه الأنظمة الحاكمة أن استقرار الشارع ولو بشكل نسبي لا يعني أماناً من الثورة، ولا يعبر بالضرورة عن حال الرضا العام عن سياسة النظام وعدالته. وأيضاً فإن إحكام القبضة الأمنية ومصادرة الحريات وسياسة الشعب بنظام الاستبداد وإقصاءَ المشاركات الشعبية وتعطيل نظام الشورى الحقيقي لا يمكن أن تضمن للنظام تكميم الأفواه وشراء الذمم وتزييف الحقائق وغسل الأدمغة، فالعصر هو عصر (ثورة المعلومات والتقنيات). هذه الثورة هي التي أسهمت في إنجاح ثورة الياسمين التونسية، جيل هذا العصر هو جيل القنوات الفضائية ومواقع اليوتيوب والفيسبوك والمجموعات البريدية.... إلخ، من هذه المجموعات الواسعة تتشكل جمهورية المهمشين، إذ نشر الوعي، وإبطال الأكاذيب والدجل والتزييف، وإظهار الحقيقة، وفضح الفاسدين والأنظمة الفاسدة. تتجاهل الأنظمة أن شباب اليوم يتلقون ثقافتهم وينمون مدارك تفكيرهم ويعمقون من وعيهم من أرض تلك الجمهورية... تلك الأرض التي لا يمكن السيطرة عليها بالطرق التقليدية. في فترة قريبة كان بعض الغيورين لا يرون في الأطباق الفضائية وشبكة الإنترنت إلا وجه الشر والفساد والإجهاز على ما بقي من دين وقيم ومروءة؛ لكنهم اليوم رأوا فيها جانباً آخر يحارب ذلك الوجه الآخر المظلم، يحارب الشر نفسه، ويفضح الفساد، ويبث الوعي، ويعلم الفرد حقوقه، ويفتح له منافذ المطالبة بها. الآن أدرك أولئك تماماً أن هذه التقنيات مجرد وسيلة، وسلاح ذو حدين، وأن التعامل معها لا يناسبه المحاربة والمنع، وإنما يناسبه الاستباق إلى استثماره والإفادة منه وتوجيهه. في هذا العصر - خصوصاً بعد ثورة الياسمين - يجب أن تنتهي وسائل الإعلام الرسمية للأنظمة العربية عن لغة التطبيل والتعمية والطمطمة على العيوب والأخطاء وعن الاشتغال بلغة الثناء والتبجيل؛ وكأنه ليس في الإمكان أحسن مما كان، هذا المنهج المكشوف المستهلك غير القابل لإعادة الاستهلاك كانت تأخذ به وسائل الإعلام التونسية الرسمية، فمن يتابعها يظن أن شعب تونس أغنى الشعوب العربية، وأن مشكلاته لا تستدعي مظاهرة سلمية، فضلاً عن ثورة غاضبة. حتى النظام التونسي ربما كان يظن هذا الظن مع إحكام القبضة الأمنية؛ لكنه غفل أو تغافل عن قنواتٍ أخرى للاطلاع والمعرفة وكشف الحقائق، كان الشعب التونسي يرى وضعه من خلالها، ربما كان يظن أيضاً أن الشباب التونسي منشغل في متابعة قنوات المجون والعهر ومواقعه ليرضي شهوته، ناسياً أو متناسياً حقوقه ومطالبه. وأيضاً: كان النظام التونسي نظاماً علمانياً مغالياً في علمانيته؛ لكن تناسى علمانيو العرب أن العلمانية يمكن أن تكون مستبدةً طاغيةً مصادِرةً للحقوق الإنسانية، وتناسوا أن العلمانية ليست ضامنة للحريات والحقوق. فمن المغالطة أن يزعموا أن الأنظمة القومية والإسلامية هي وحدها التي تصادر تلك الكرامات والحقوق، ومن المغالطة بعد اليوم أن يزعموا أن إحلال النظام العلماني بديلاً عن القومي أو الإسلامي كفيل برد الحقوق الإنسانية إلى أهلها. في هذه المسألة تحديداً لم أجد جرأة من أقلام محسوبة على الخط العلماني تنتقد علمانية تونس، وتعترف صراحة أن النظام العلماني ليس بالنظام السياسي الذي يمكن التعويل عليه للدفاع عن الحقوق الإنسانية ومحاربة كل ما يصادرها. * أكاديمي في الشريعة. [email protected]