كثيرا ما تعاني نقاشاتنا العربية حول السياسة وشؤونها من هيمنة المقاربات الكلية والتقييمات التعميمية التي تفرغ تحولاتها الجزئية من المضمون وتنزع الأهمية عن التدبر المنظم في مساراتها التطورية. فعلى سبيل المثال، كتبت خلال الآونة الأخيرة مقالات ودراسات عدة تناولت قضايا التحول الديموقراطي والحريات العامة في المجتمعات العربية استخف جلها بتجارب التعددية السياسية المقيدة والانتخابات الدورية التي امتدت في العقدين الماضيين من لبنان والمغرب والكويت ومصر والسودان لتغطي رقعة واسعة تضم اليوم، إلى جانب هذه الدول، الجزائر وتونس والأردن والأراضي الفلسطينية والعراق واليمن والبحرين. وشكل استمرار غياب تداول السلطة وطغيان الديني والمذهبي والطائفي على المدني في الحياة السياسية وسوء مؤشرات الحكم الرشيد وسلبيات المشاهد الانتخابية العربية وسطوة الأجهزة الأمنية والتنفيذية في مقابل ضعف البرلمانات والمؤسسات القضائية، شكل كل ذلك الإطار الإسنادي لتعميم تقييم سلبي لتجارب التعددية صنفها كممارسات تجميلية وواجهات ديكورية محدودة النفع لم تغير من الطبيعة السلطوية للسياسة العربية ولا تحمل في طياتها البذور التراكمية لتحولات ديموقراطية في المستقبل. ومع أن العوامل المشكلة للإطار الإسنادي هذا ليست بالمتوهمة أو غير الدقيقة، إلا أن التعويل عليها بمفردها يغيب عن الباحث والمتابع القدرة على قراءة وفهم العديد من التحولات الجزئية والصغيرة التي رتبتها التعددية في العالم العربي. فمن جهة أولى، مكنت تجارب التعددية المقيدة والانتخابات الدورية أحزاب وحركات المعارضة العربية وكذلك السياسيين المستقلين، وإن بنسب متفاوتة، من التواجد داخل البرلمانات وأتاحت لهم في مواجهة الحكومات حق استخدام الأدوات التشريعية والرقابية المنصوص عليها في الدساتير والقوانين المنظمة للعمل البرلماني وصلاحياته. بالقطع، ما زالت الحكومات تسيطر على البرلمانات ومخرجاتها التشريعية، إن من خلال غالبيات مريحة كما هي الحال في الجزائر وتونس ومصر واليمن أو باتباع نظام المجلس المنتخب والمجلس المعين المعمول به في الأردن والبحرين. بيد أن وجود المعارضة أدى إلى تفعيل الأدوات الرقابية وألزم الحكومات التعامل بجدية مع عدد متزايد من الاستجوابات وطلبات الإحاطة والمناقشة والتحقيق والأسئلة البرلمانية. على سبيل المثال، سجل مجلس الشعب المصري في الدورات الأربع الماضية من طور انعقاده الحالي 2005 - 2010، ومع بلوغ نسبة تمثيل المعارضة فيه 20 في المئة، تصاعدا ملحوظا في توظيف الأدوات الرقابية في مواجهة الحكومة. بين عامي 2005 و2009، حاول نواب جماعة «الإخوان المسلمين» (86 نائباً) بمفردهم استخدام الأدوات الرقابية أكثر من 21 ألف مرة، بل وتقدموا بما يقرب من 10 آلاف اقتراح برغبة ومشروع قانون في مسعى للتأثير على مخرج المجلس التشريعي. كما أضفت مشاركة المعارضة الشيعية المتمثلة في جمعية «الوفاق الوطني» الإسلامية في المجلس البحريني المنتخب، مجلس النواب، في فصله التشريعي الثاني (2006-2010) فاعلية رقابية واضحة على العمل البرلماني. خلال الدورات الثلاث الماضية، شهدت أروقة مجلس النواب نقاشات حقيقية حول الموازنة العامة للدولة وأملاكها ووظفت كتلة الوفاق (17 نائباً) للمرة الأولى آلية الاستجواب بتقديم استجوابات أربعة للحكومة. وفي الجزائر، فرض استقرار الوجود البرلماني للمعارضة الليبرالية واليسارية والإسلامية والمستقلة منذ نهاية التسعينيات تحسنا نوعيا في كيفية إدارة العملية الانتخابية وآليات الرقابة عليها بغية وضع حد للتلاعب بأصوات الناخبين وترجم ذلك في تعديلات القانون المنظم للانتخابات البلدية والتشريعية التي صدق عليها في 2007. من جهة ثانية، ساعد الوجود البرلماني أحزاب وحركات المعارضة على التواصل مع الرأي العام والتأثير في نقاشاته حول قضايا السياسة وأداء الحكومات. تتمتع معظم المجتمعات العربية التي تطورت فيها تجارب التعددية السياسية بساحات إعلامية حريتها شبه كاملة كما في لبنان والكويت والعراق أو أن فيها بعض القيود الحاضرة كما في المغرب والجزائر ومصر والأردن، على سبيل المثال. في النمطين، خرجت المعارضة بممارساتها الرقابية عبر الإعلام إلى الفضاء العام واستكملت محاسبتها للحكومات في الوسائط المكتوبة والمرئية محولة موضوعات بعض استجواباتها وطلبات التحقيق والإحاطة إلى قضايا رأي عام. وينطبق الأمر ذاته على التفاعل بين المعارضة البرلمانية ومنظمات المجتمع المدني، بخاصة تلك المعنية بالحريات العامة وحقوق الإنسان، والتشكيلات النقابية والمهنية صاحبة التراث الاستقلالي الطويل في مجتمعات كالمغرب وتونس ومصر. من جهة ثالثة، تنبئ خبرة بعض أحزاب وحركات المعارضة المشاركة في البرلمانات العربية عن تنامي نضجها التنظيمي والوعي السياسي لقياداتها وأعضائها. ففي لقاء مع برلمانيين حزبيين ومستقلين من الجزائر وتونس ومصر والأردن واليمن والكويت والبحرين نظمه في الأسبوع الماضي مركز كارنيغي لدراسات الشرق الأوسط ببيروت، قدمت شهادات حية أظهرت لدى البعض توجها نحو التركيز على قضايا السياسات العامة وتفعيل الأدوات الرقابية وبناء الأطر التنظيمية اللازمة لذلك كفرق تجميع المعلومات والإسناد البحثي للنواب والانفتاح على الكوادر الأكاديمية في المجتمعات المعنية للإفادة من خبراتها في صياغة البرامج الانتخابية وبدائل السياسات، في حين دللت لدى البعض الآخر على تبلور إرادة تنظيمية للشروع في ممارسة الديموقراطية الداخلية عبر الانتخاب الدوري للقادة أو تعميقها بإعطاء الأعضاء الحق في المساءلة الدورية للقادة وممثلي الحزب أو الحركة في المجالس التشريعية والبلدية. كذلك مارس عدد من البرلمانيين المشاركين في اللقاء بجرأة بادية نقدا ذاتيا للحصاد المتهافت لخبرتهم في التنسيق بين أطياف المعارضة المختلفة وبناء التحالفات التوافقية المتخطية للحواجز الأيديولوجية والمذهبية والطائفية بشأن قضايا مركزية كالإصلاح الدستوري والعدالة التوزيعية والسياسات الاقتصادية والمالية. في هذه السياقات كلها، اكتسبت المشاركة البرلمانية أهمية قصوى لجهة تأهيل أحزاب وحركات المعارضة للاضطلاع بأدوار فعالة في الحياة السياسية عبر التحول من تنظيمات تروم فقط إسماع الصوت الاحتجاجي ورفع الشعارات المضادة للحكومات إلى قوى ذات رؤى برامجية وقادرة على العمل المشترك. سيقول دعاة التقييمات التعميمية أن ما سبق تفصيله لم يرتب تداولا ديموقراطيا للسلطة ولم يغير من واقع هيمنة الحكومات على السياسة العربية، وهم في ذلك محقون. بيد أن مصدر التهافت التحليلي هنا يعود إلى الفصل التعسفي والاختزالي بين أمل اقتراب عالمنا من الديموقراطية وجوهر التحولات الجزئية والصغيرة التي تنتجها تجارب التعددية المقيدة والانتخابات الدورية ومساراتها التطورية. يندر أن يكتشف تداول السلطة من دون مقدمات، والحكومات لا تتنازل فجأة عن انفرادها بإدارة السياسة وشؤونها إلا في لحظات جد استثنائية. بل تستعد المجتمعات لتداول السلطة تدريجيا، وتنازع الحكومات على حق المشاركة معارضة مسؤولة تؤهل لدورها في ساحات العمل البرلماني والعام وتنضج تنظيميا وسياسيا في ظل ممارسة التعددية وإن اكتنفها من القيود الكثير. * كاتب مصري