أكدت مصادر وزارية لبنانية واكبت الاتصالات التي أدت إلى «الإفراج» عن تسديد حصة لبنان في المحكمة الدولية أن التمويل لم يقترن بمقايضته بملف شهود الزور ولا بالموافقة على إصرار «التيار الوطني الحر» على تعيين القاضي طنوس مشلب رئيساً لمجلس القضاء الأعلى بناء لاقتراح رفعه وزير العدل شكيب قرطباوي إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء لإدراجه على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء. وقالت المصادر نفسها ل «الحياة» إن ضيق الوقت لم يكن ليسمح بربط موافقة محور في الأكثرية في الحكومة على التمويل بإدراج ملف شهود الزور على جدول أعمال جلسة مجلس الوزراء، وعزت السبب إلى أن هذا المحور فوجئ بإصرار رئيس الحكومة نجيب ميقاتي على حسم مسألة تمويل المحكمة وتهديده بالاستقالة في حال لم يتم تسديد حصة لبنان على وجه السرعة. وكشفت أن ميقاتي لم يهدد بالاستقالة فحسب، وإنما سارع إلى إعداد بيان في هذا الشأن، لكنه عدل عنه بمداخلة مباشرة من رئيس المجلس النيابي نبيه بري أثمرت توافقاً على تمويل المحكمة من دون أي تردد. ولفتت إلى أن بري لعب دوراً في إيجاد المخرج لتمويل المحكمة وأنه تواصل من أجل إنجازه مع رئيس «جبهة النضال الوطني» وليد جنبلاط وقيادتي «حزب الله» و «التيار الوطني الحر». وقالت إن المشاورات لم تتطرق إلى تقديم أثمان سياسية في مكان آخر في مقابل التمويل بمقدار ما أنها بقيت محصورة في كيفية تأمين المبلغ للبقاء على الحكومة حفاظاً على الاستقرار العام. وأوضحت المصادر عينها أن قيادتي «حزب الله» و «التيار الوطني الحر» كانتا جزءاً من هذه المشاورات وأن ميقاتي تريث في السير في مخرج التمويل ولم يحسم أمره إلا بعد استقباله ليل الثلثاء الماضي المعاون السياسي للأمين العام ل «حزب الله» حسين خليل الذي أبلغه موافقته على مبدأ التمويل شرط أن يصار إلى التريث في تحويل المبلغ إلى حين وصول مساعدات وتبرعات للهيئة العليا للإغاثة تكون كافية لتسديد هذا المبلغ. لكن ميقاتي، كما تقول المصادر الوزارية، أصر على أن يتم تحويل المبلغ فوراً على أن يبحث لاحقاً في توفير الغطاء الدستوري للتمويل، مشيرة إلى أن ميقاتي لم يتصرف بتفرد وإنما أصر على أن تأتيه الموافقة من الأطراف الرئيسة في مجلس الوزراء. وفي هذا السياق قالت المصادر إن ميقاتي وضع حلفاءه في الحكومة أمام الأمر الواقع وإن القيادة السورية نصحت بالعودة إلى رئيس المجلس لاستنباط المخرج المؤدي إلى التمويل باعتبار أن بقاء الحكومة حاجة سورية وأن دمشق ليست مع إحلال الفوضى في لبنان وفرض عقوبات دولية عليه من شأنها أن تقطع الهواء عنها. كما أن ميقاتي، على ذمة هذه المصادر، بات في حاجة إلى تمويل المحكمة لسببين: الأول يتعلق بالتزامه الوعود التي قطعها على نفسه أمام المجتمع الدولي والثاني يختص باستيعاب الارتدادات السياسية المترتبة على ازدواجية الموقف اللبناني من العقوبات التي أقرها مجلس وزراء جامعة الدول العربية ضد سورية والذي برز من خلال رفض وزير الخارجية والمغتربين عدنان منصور لها والنأي بلبنان عنها، إنما على قاعدة الالتزام بتطبيقها على حد قول وزير الاقتصاد والتجارة نقولا نحاس المقرب جداً من رئيس الحكومة. واعتبرت المصادر الوزارية أن ميقاتي نجح في إقناع الأكثرية في الحكومة بضرورة تمويل المحكمة خلافاً لموقفها الرافض وهي بالتالي اختارت أن تغض النظر عن التمويل على رغم أنه يتعارض مع قناعاتها السياسية. ورأت أن ميقاتي نجح في تمديد فترة السماح الدولية لحكومته وهذا ما عكسته مواقف الدول بترحيبها بخطوة التمويل التي ستفتح الباب أمامه للتواصل مع المجموعة الأوروبية. ورداً على سؤال أكدت المصادر أن المعارضين للتمويل في الحكومة فوجئوا بموقف ميقاتي المتشدد لجهة حسمه بسرعة وبالتالي لم يكن لديهم متسع من الوقت للتفاوض معه على مرحلة ما بعد التمويل التي يفترض أن تمهد الطريق أمام البدء بتنفيذ ما أوردته الحكومة في بيانها الوزاري. وتابعت إن ضيق الوقت حال دون الدخول مع ميقاتي في صفقة تتعلق بالخطوات المطلوبة لما بعد التمويل أو التفات قوى المعارضة له إلى ترتيب أوضاعها في حال أحجمت عن التمويل وأصر ميقاتي على الاستقالة. وأضافت المصادر أن جنبلاط الذي شارك في المشاورات التي قادت إلى تمويل المحكمة لم يسمع من هذا الفريق أو ذاك ما يؤشر إلى وجود صفقة تقضي بإتمام مقايضة بين التمويل ومواضيع أخرى. وأكدت أن المعارضة في الحكومة لمبدأ التمويل أحست بأنها لا تملك خطة متكاملة لتدبير أمرها في حال قررت الاعتراض عليه، إضافة إلى أن استقالة ميقاتي ستعيد خلط الأوراق السياسية في اتجاه إيصال البلد إلى أزمة سياسية مفتوحة. لا سيما أنها ليست ضامنة للموقف الذي سيتخذه جنبلاط الحليف لرئيس الحكومة، ناهيك بأن استقالة ميقاتي - بحسب المصادر نفسها - قد لا تعني بالضرورة عودته إلى رئاسة الحكومة وهذا من شأنه أن يفقد المعارضة ورقة سياسية رابحة كانت وراء تعديل ميزان القوى الذي منع رئيس الحكومة السابق سعد الحريري من تكليفه تشكيل الحكومة، الذي ما زالت موانع عودته قائمة لدى الفريق الذي أبعده. إلا أن إعادة خلط الأوراق قد لا تعني بالضرورة قيام تناغم بين جنبلاط وبين قوى 14 آذار، لكنها ستضغط، حتماً، من أجل إعادة خلط الأوراق وصولاً إلى إحداث فراغ في السلطة يجر البلد إلى أزمة حكم لا تخفف من وطأتها دعوة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان إلى إجراء استشارات نيابية ملزمة لتسمية الرئيس الجديد لتأليف الحكومة. لذلك فإن المعارضة للتمويل قررت في ضوء المشاورات بين أركانها التسليم بالخسارة بالنقاط نتيجة موافقتها باعتبار أن هذه الخسارة تبقى أفضل من إقحام البلد في مغامرة سياسية غير محسوبة النتائج يعرف الجميع من أين تبدأ لكنهم لا يدركون إلى أين ستنتهي. وعليه فإن ملف شهود الزور لن يدرج حتى إشعار آخر على جدول أعمال مجلس الوزراء وذلك لسببين: الأول أن ليس في عهدة القضاء اللبناني أي ملف يتعلق بما يسمى بشهود الزور وأن كل ما يقال في هذا الخصوص يبقى محصوراً بتبادل الحملات الاتهامية بين مؤيدي المحكمة الدولية ومعارضيها طالما أن المحكمة لم تأخذ بأقوالهم في القرار الاتهامي الذي صدر في جريمة اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري ورفاقه. أما السبب الثاني الذي يؤخر البت في ملف شهود الزور فيتعلق بعدم تعيين الرئيس الجديد لمجلس القضاء الأعلى الذي لن يدرج على مجلس الوزراء في جلسته بعد غد الأربعاء. واعتبرت المصادر الوزارية أن هناك مشكلة تواجه تأييد اقتراح الوزير قرطباوي تعيين القاضي مشلب، وقالت إنها لا تكمن في الاعتراض على شخصه ولا كفاءته المشهود بها، إنما في مبادرة الوزير إلى حصر اقتراح التعيين به بدلاً من أن يتقدم من مجلس الوزراء بلائحة تضم ثلاثة مرشحين لهذا المنصب على الأقل ويترك له اختيار من يسميه. وأكدت أن الأجواء السياسية الراهنة في داخل مجلس الوزراء لا تشجع على المجيء برئيس لمجلس القضاء يصر فريق في الحكومة على تسميته على رغم أنه يتمتع بالكفاءة المطلوبة وقالت إن تعيينه سيلقى معارضة تفوق أكثرية الثلث في المجلس وهذا ما يفتح الباب أمام البحث عن مرشح آخر. ولفتت إلى أن مجلس الوزراء يقترب الآن من الدخول في مرحلة جديدة من الاشتباك السياسي الذي يمكن أن يتفاقم ما لم يتقرر إيجاد المناخ المناسب لتسويق التسويات التي لن ترى النور إلا بالتوافق وتحديداً في شأن ملف شهود الزور الذي يستهدف من وجهة فريق في المعارضة مجموعة من كبار الموظفين المطلوب إبعادهم عن مراكزهم أو إقالتهم وهذا ما لا يوافق عليه رئيس الحكومة الذي تجاوز اختبار تمويل المحكمة ونجح في تقديم نفسه على أنه قادر على الوفاء بالتزاماته أمام المجتمع الدولي وبالتالي لن يقدم على تغطية خسارة تطيح ما حققه جراء كسبه لمعركة التمويل.