يبدأ فيلم «زواج موقت» للإيراني رضا سركانيان، بموسيقى إيرانية آسرة واعدة بعمل رصين لا تقف رصانته مانعاً أمام المتعة، وتأتي المشاهد الأولى على اتساق مع الموسيقى والفكرة الأولية عن الفيلم. دار قديمة واسعة يتوسطها حوض ماء تحيط به أصص الأزهار وتسبح فيه بطيخة كبيرة تعد هي الأخرى بمذاق لذيذ. تعبر هذا المحيط الأنيس نسوة في حركة سريعة توحي بالتحضير لحدث سعيد هو الآخر، يحضر ابن العائلة الشاب الذي أنهى للتو الخدمة العسكرية محدثاً صخباً مرحاً، يبدأ التعرف إلى الشخصيات بإيقاع يتناسب مع دور كل منها. الجد العجوز يصعد ببطء إلى السطح للأذان، خطيبة الشاب تقليدية بلباسها وحركتها وتفكيرها، طفلة طهران الزائرة أكثر انفتاحاً على الآخرين من صبية البلدة الصغيرة، المرأة التي ابتعدت عن محيطها الضيق هي أيضاً أكثر تفتحاً واستعداداً لمتع الحياة... الدنيا. في «زواج موقت» نمنّي النفس بفيلم ممتع من ذلك المنتمي لسينما المؤلف في إيران. «لكن»، التي لا بد ينتظرها القارئ بعد هذه المقدمة، هي هنا للأسف، فسرعان ما يبدو جلياً أن إعطاء صورة «فولكلورية» عن إيران، هو المسيطر على العمل، وأن مشاهد عدة أقحمت لتخدم هذا الغرض. البداية من البيت الكبير الذي تسكنه عائلة تقليدية، الأجداد والأحفاد يتعايشون في جو بدا أليفاً. ثمة مشروع زواج بين قريبين من أفرادها، تطيح وفاة الجد العجوز بالأحلام، فالتقاليد الاجتماعية تلزم التأجيل سنة حداداً. الشاب لم يعد يطيق الانتظار فما الحل؟ زواج موقت، يقترح عليه أحد الشيوخ. ثمة قضية أخرى معقدة. الجد أوصى بدفنه في قم (لم يذكر الاسم في الفيلم لضرورات رقابية إيرانية)، بيد أن عوائق إدارية تحول أمام ذلك، فما العمل؟ تبدأ رحلة العائلة مع الجثمان لتنكشف من خلالها محاولات الفرد المستمرة للالتفاف على كل ما يعيق النزعات الفردية سواء منها المتعلق بالتشريعات الدينية أو العادات الاجتماعية أو القوانين الإدارية. سرد «إيران» يبدو واضحاً أن سركانيان، في فيلمه الروائي الأول هذا كمخرج وككاتب السيناريو، ودَ نقل صور من طفولته احتفظ بها في الذاكرة عن البيت العائلي الكبير، وتلك الحميمية التي تميز العلاقة بين أفراده، لكن تلك الأجواء والفضاءات الداخلية التي وفّق في تمريرها في القسم الأول من الشريط، سرعان ما تهاوت أمام رغبته في «سرد» إيران، في مقاربة لطقوسها الاجتماعية ومعتقداتها الدينية باعتماد أسلوب «التوثيق» المكثف. ومن البداية حشدت المشاهد «التوثيقية»: ترميم قبة أثرية، زقاق ضيق وبيوت قديمة، مقهى تراثي ونرجيلة تبقبق مياهها، أذان الجد في البيت، حفلة طهور للصغيرين مع ما يرافقها من طقوس: وليمة، عرض مسرحي، فرقة موسيقية... وفاة الجد مع ما يتوجب من مراسم الدفن، درس في التيمم وخطاب رسمي عن حقوق المرأة في الإسلام، تعاليم عن الزواج الموقت... رصد لليومي الإيراني قد يكون مقبولاً لو جاء في السياق، لو لم تتخمه مشاهد أخرى تتابعت على مدار الفيلم وجعلت الخط العام للسرد يتشعب في متاهات فرعية مغلقة. فالحديث عن هاجس الشباب الإيراني في العلاقات الجنسية، في شرب الخمرة... وعن دور الدين والعائلة في تنظيم حياة الفرد، مواضيع أكثر من كافية ولم تنل حقها بمعالجة معمقة. وفي خضم العرض الفولكلوري لإيران، أقحمت شخصيتان لصحافيين فرنسيين كانا يصوران فيلما عن حقوق الإنسان والمرأة بخاصة في إيران، فزادتا الطين بلة. فهنا كانت مناسبة لسماع واعظة في مسجد تصرّح بعبارات خطابية من قبيل «لا توجد امرأة إيرانية الآن، بل هناك المرأة الإيرانية المسلمة...»! ثم لتجيء زيارتهما كنيسة إشارة فجة لمشاهد غربي على أن ثمة كنائس في إيران! بطاقة سياحية أما الإشارة إلى المعجزات في الحرم والاستخارة من القرآن التي يلجأ الإيرانيون إليها بكثرة، واحتفالات عاشوراء مع صرخات الفتيات الصغيرات المشاركات والمحجبات بالكامل، وقبور الشهداء... فلم تكن أكثر من بطاقة سياحية. جاء التوثيق مبتوراً لا يُفقه منه شيء، ولا تتطلبه ضرورات السرد. وإن كان المشاهد الإيراني (الذي لن يشاهد الفيلم) يعرف تماماً المعاني التي تتضمنها تلك اللقطات ويمكنه الاكتفاء بما بان منها، فإن المشاهد الغربي لن يدركها وقد قدمت بهذه الصورة المسطحة، وستزيد من غموض الأمور لديه. أما على الصعيد البصري، فقد لعب المكان دوراً إيجابياً في بداية العمل حين كان الفضاء محصوراً بالبيت الكبير وما يحيطه لكن الانتقال نحو فضاء أرحب، لا سيما في القسم الثاني، لم يضف شيئاً للصورة فظلت مؤطرة لم تنفتح على المكان. لمسات بلا حجاب رضا سركانيان مخرج إيراني فرنسي يقيم في فرنسا. بعد «صراع» مع الرقابة الإيرانية، حصل السيناريو على الموافقة وجرى التصوير بمشاركة إيرانية في الإنتاج، وكان مقرراً عرض الفيلم في مهرجان فجر 2010 وأعلن عنه في كتالوغ المهرجان تحت عنوان (أقرب من الأقارب)، لكن المخرج لم ينتهِ منه في الوقت المحدد كما أعلن آنذاك. بعدها علمنا أنه أخرج النسخة من إيران، ثم رغب في عرضها في قسم الموزعين المستقلين في مهرجان كان الأخير، لكن الوفد الإيراني اعترض معتبراً أنها ليست النسخة المتفق عليها مع المخرج. وكيف لها أن تكون؟! في أحد المشاهد يبدو الشاب المجند وهو يمسد قدم أرملة أخيه، القادمة لزيارتهم من طهران، ثم تظهر تلك في مشهد آخر من دون حجاب. لكن هنا، لا يمكننا القول إن المشهدين كانا مقحمين. لقد أظهرا ما يمكن أن يعتمل في نفس شاب حين يلمس امرأة للمرة الأولى أو يراها كما هي جذابة مثيرة، مختلفة عن خطيبته التي لا تريد حتى الكلام معه خوفاً من الأعين وكلام الناس. بالطبع نتفهم رغبة المخرج في إظهار لقطات جريئة هي في رأيه أكثر تعبيراً عما يختلج في نفس الشاب من لواعج الشهوة، لقطات كانت موفقة في الواقع، لكنها ستحرم الفيلم من العرض في إيران. فهل أدرك المشاهد الغربي الذي يعرض له الفيلم حالياً في الصالات الفرنسية، تضحية كهذه؟ ربما، فالفيلم حظي بإعجاب الكثير من النقاد في فرنسا.