في السنة الأولى لقدومي دبي، أخذ ابني السيارة ليحضر لنفسه وجبة من المطعم المجاور، فأمسكَتْه الشرطة وأحالته على المحكمة بتهمة القيادة دون السن القانونية، التي بدورها حددت له يومَ حضور المحاكمة. ولما كان ولدي دون السن القانونية، فقد توجب حضور ولي أمره، أي والده. ولأن الوالد لم يكن حاضراً وقتَها في دبي، اعتبرتني المحكمة ولية أمره ومخولةً الحضورَ معه، فذهبت. لم يأخذ الحكم أكثر من ربع ساعة، فبعد التأكد من هويتنا، ولأنها المخالَفة الأولى في حياة ولدي، قال القاضي لابني جملة واحدة: إن رأيتك مرة أخرى سأرسلك للسجن، اذهب. لم أذهب يوماً إلى أي دائرة، حكومية أو خاصة، ومنعتني من الدخول بسبب كوني امرأة. ذهبت لشركة الكهرباء، والاتصالات، وشركات بيع العقار، والمحكمة، والمرور، والجامعات، ومدرسة ابني، ومدرسة ابنتي... بل حتى ذهبت إلى قسم الشرطة أبلِّغ عن سرقة. المجتمع هنا يعيش، بجنسيه معاً، حالةً طبيعية تحافظ على الانسجام بقوة التشريعات والأخلاق والآداب العامة، ومن لا يمنعه خلقه ولا أدبه تتصدى له القوانين والتشريعات، حتى تحوَّلَ الأمن والآداب إلى خُلُق وسلوك عام. في السعودية، قريباتي اللواتي يمتلكن مؤسسات عمل صغيرة، يحتجْنَ إلى وكيل دائم -يكون غالباً رجلاً غريباً عنهن ولا يعرفنه ويخون ثقتهن- كي يراجع نيابة عنهن الدوائر الحكومية، من دائرة تحصيل الزكاة إلى مكتب الاستقدام. أما في المحكمة، فإنهن يحتجن إلى معرِّف، ويحتجن إلى مَحْرَم، وكذلك إلى توكيل الوكيل، وكل هذا بسبب وهْمٍ كبير أن البشر لا يجب أن يختلطوا، وإن اختلطوا شاعت الرذيلة، وأن لا بد من أن تقام الحواجز بينهم، ويُفصل بين النساء والرجال في الأماكن العامة والدوائر العامة، فلم يبق إلا الشوارع العامة، حتى شاع بين الناس أن عيشهم بصورة طبيعية مثل باقي المجتمعات خطر عليهم، لأنهم مختلفون عن بقية الناس. حتى الرجل عندما يريد دخول المتاجر الكبرى يحتاج إلى «مَحْرَم» يكون هذه المرة ابنته أو زوجته. أذكر أنني عندما زرت حديقة الحيوانات مع أبنائي، أَوقف الحارس ابني وقاس طوله بعصا طولها متر ثم قال ممنوع دخوله. لكن المشكلة ليست هنا، فابني يذهب اليوم إلى أماكن أنا من يُمنع من الدخول إليها. المشكلة أن هاجس الرعب من الاختلاط امتد اليوم إلى الأطفال وإلى مدارسهم، ففي بعض المدارس الخاصة التي بدأت تطبيق دمج البنين والبنات في الصفوف الابتدائية الأولى، تم منعهم من الاختلاط، رغم أنهم لا يختلطون في الصفوف، فمُنعوا من الاختلاط في الفسحة. كيف تفسر لطفلة في السادسة أنها لا يجب أن تتحدث مع طفل في السادسة لأنها بنت ولأنه ولد، وأهلهما هم الذين أرسلوهما ويعرفون أن طفليهم يختلطان. هؤلاء سيكبرون ويكتشفون أن حياتهم عُطلت، وأن عقولهم امتلأت بفتاوى تحريمية على حساب العلم والمعرفة والمصلحة، وسيعرفون أيضاً أن دين الله هو المصلحة. والأهم من هذا كله أن كثيراً من هؤلاء -بحسب هذا النمط من العيش- لن يحتاج إلى استخدام ضميره ووازعه الأخلاقي وانضباطه المجتمعي، لا حاجه له به طالما أن هناك دائماً من ينوب عنه، وربما سلبه إياه. فهل يمكن أن نطلق على هؤلاء مصادري الضمير. [email protected] Twitter | @badryahalbeshr