لعل أحد أهم عوامل نجاح الفيلم الوثائقي هو اختيار الموضوع المناسب الذي يستحق البحث والتقصي، وهذا ما فعلته المخرجة الجزائرية صافيناز بوصبايا التي اختارت موضوعاً موفقاً لفيلمها «إل غوستو» (المزاج)، إذ سعت إلى الكشف عن الموسيقى «الشعبية» الجزائرية التي ما زالت أصداؤها تتردّد في حي القصبة الشهير في العاصمة الجزائرية، على رغم حجب النسيان الكثيرة التي تراكمت عبر نصف قرن يفصلنا عن تلك الموسيقى التي كانت سائدة ومنتشرة، آنذاك. كل شيء يبدأ من هذا الحي الشهير «القصبة» حيث تقوم المخرجة بزيارته لشراء مرآة، لكنها تكتشف أن بائع المرآة، الطاعن في السن، كان عضواً في فرقة أسطورة الغناء الشعبي الجزائري محمد العنقا، سيحفّز هذا الاكتشاف المخرجة الفضولية لتكبد عناء البحث في هذا اللون الموسيقي الخاص الذي تمتزج فيه إيقاعات مختلفة إسلامية وأندلسية وعربية وبربرية لتشكل نموذجاً فريداً لنوع موسيقي هو في طريقه إلى الزوال أمام موجات الحداثة، والتحولات التي أصابت المجتمع الجزائري خلال العقود الأخيرة. بهذا الهاجس الذي يستشعر الفقد، ويدرك قيمة تراث موسيقي طواه النسيان أو كاد، تمضي المخرجة في إنجاز شريطها الوثائقي (88 دقيقة) في محاولة منها لإعادة الاعتبار إلى تلك الموسيقى الشعبية التي لم تكن تأبه لنظرية «الفن للفن»، بمقدار ما كانت تدعو إلى قيم التسامح والعدالة والحرية والوفاء، وتكرس جماليات الحياة اليومية عبر الحض على التكاتف في وجه المحن، والنأي عن الفروقات الثقافية والعرقية والإثنية والطائفية، والتركيز، بدلاً من ذلك، على الجوانب الإنسانية بمعزل عن أي أبعاد أخرى. بهذا المعنى، يبدو انحسار تلك الموسيقى ضمن المشهد اليومي الجزائري، كناية عن انحسار القيم التي كانت تتغنى بها تلك الموسيقى، وكأنها لا تزدهر إلا ضمن بيئة يسودها الوئام وعلاقات المودة، وحين يصيب الشرخ هذه العلاقة، فإن تلك الموسيقى، بدورها، تتراجع، ويأتي، هنا، التركيز على حي القصبة كفضاء وجداني وروحي احتضن تلك الموسيقى، وتشرّب ألحانها الشجية، حتى أصبح عنواناً لها، يعكس جمالياتها وقيمها. تشابك العمران لا يغفل الفيلم الذي شارك في إنتاجه الجزائر، إرلندا، فرنسا، (فضلاً عن تمويل من منحة «سند» التي أنشأها مهرجان أبو ظبي السينمائي) هذه الحقيقة، إذ تظهر الكاميرا لقطات من الأعلى لتفاصيل هذا الحي المعروف، وتوضح كيف أن البيوت والأبنية تتشابك وتتداخل في جو حميمي؛ وما زادها ألقاً هو لون البياض الذي يطغى على البناء الجزائري، إلى جانب زرقة الشواطئ التي تبدو من الأعلى أشبه بلوحة فنية، ثم تهبط الكاميرا من ذلك العلو الشاهق لتسير في الدروب والزوايا الضيقة؛ المتعرجة مستطلعة الأرصفة والبيوت والمحال والأماكن التي شهدت حفلات لفرقة محمد العنقا؛ مؤسس هذا اللون الغنائي الشهير في الجزائر. ستقود تلك المرآة الصغيرة المخرجة إلى رؤية عالم واسع، عبر اقتفاء أثر موسيقيين عاشوا لحظات مجد، وقوبلت أغانيهم بتصفيق حار من مختلف شرائح المجتمع الجزائري، وستظهر على الشاشة بعض أعضاء تلك الفرقة من أبناء الأديان السماوية الثلاثة الذين وحّدهم المزاج والشغف الموسيقي: محمد فركيوي، مصطفى تاهمي، أحمد برناوي، روبرت كاستل، رينيه بيريز، ليامين حيمون، موريس المديوني... وسواهم ممن جمعهم حب الجزائر والموسيقى ذات يوم، لكن الأقدار فرقتهم لاحقاً، فبقي بعضهم في الجزائر، وآخرون استقروا في فرنسا، خصوصاً اليهود. نصف قرن لم يستطع أن يطفئ جذوة الموسيقى في قلوبهم، بل بقي ذلك الشغف الموسيقي متأججاً من دون أن يخبو في دواخلهم، كما تؤكد كلماتهم المشحونة بفيض من العواطف والحنين إلى زمن جميل. المخرجة بوصبايا تسعى إلى ترميم مسافات الغياب، وإلى النبش في تلك الذاكرة المثقلة بتفاصيل عن أيام مشرقة وبهيجة، ولا يحتاج الأمر إلا إلى سؤال بسيط كي تشرع تلك الذاكرة في التدفق، وها هي بوصبايا تحضهم على الحديث عن تلك السنوات البعيدة. وهم، في الواقع، بدوا سعداء وهم يروون تجربتهم واللحظات السعيدة التي عاشوها. كيف لا وهم كانوا رموزاً لفن له احترامه ومكانته، آنذاك. وخلال هذه اللقاءات سنتعرف إلى جانب من التاريخ الجزائري إبان الوجود الفرنسي الذي دام أكثر من 130 عاماً، وكيفية نشوء جبهة التحرير الوطني الجزائري ونزعتها الراديكالية في القضاء على مناهضيها، إلى أن حصلت الجزائر على استقلالها مطلع ستينات القرن الماضي. والفيلم يستعين، هنا، بالكثير من الوثائق البصرية (فيديو، فوتوغراف) التي تؤرخ لتلك المراحل. الأمنيات كاملة لا تكتفي المخرجة بتسجيل شهادات هؤلاء الموسيقيين والعازفين، بل هي تمضي في حلمها ومغامرتها إلى النهايات القصوى، وستكون هذه هي من المرات النادرة التي تحقق فيها الكاميرا أمنية أعضاء الفرقة المنسية، إذ تبذل المخرجة جهوداً تفوق طاقة الفيلم عندما ترتب لقاءً جماعياً للفرقة في مدينة مرسيليا، وتمهد لإحياء حفلة موسيقية تجمع أعضاء الفرقة الأحياء الذين قَدِموا من الجزائر وباريس، وهذا ما يحصل بالضبط، بل إن الحفلة تحظى بحضور استثنائي تعيد إلى الأذهان النجاحات التي حققتها قبل عقود. وعلى إيقاع موسيقى هذه الحفلة تظهر تيترات الفيلم إيذاناً بالنهاية السعيدة، ولهذا عندما منحت لجنة التحكيم في مهرجان أبو ظبي جائزة «أفضل مخرج من العالم العربي» لصافيناز بوصبايا، بررت منح الجائزة بالقول: «للمجهود المبذول في ربط الماضي بالحاضر، والشخصيات بالمُشاهد، وجعل الشاشة قادرة على تحويل حلم إلى واقع». كل شيء في هذا الفيلم مشغول بعناية واهتمام من اللقطات والمشاهد التي تظهر الأجواء التي نمت خلالها تلك الموسيقى، والعادات والتقاليد التي كانت تكن احتراماً لها، كما أن الشخصيات تظهر وهي تتحدث في أكثر من موقع تصوير لا ضمن كوادر ثابتة عبر ثرثرة مملة، كما يحصل في غالبية الأفلام الوثائقية. وبدت هذه الشخصيات عفوية في حديثها، تستعيد ذكريات الماضي بنبرة مؤلمة، حريصة على تراث موسيقي في طريقه إلى التلاشي، وتعقد مقارنة بين الماضي والحاضر، ودائماً عبر لغة إنسانية دافئة ومؤثرة تتخللها الأغنية بكل حمولتها الجمالية والوجدانية والتي شكلت دعامة رئيسة ساهمت في منح الفيلم الجاذبية وأمتعت المشاهد. لا تكترث المخرجة، كثيراً، بمقولات الهوية والأوطان، ولا ترفع شعارات كبرى، وإن كان الفيلم يقف عند محطات سياسية مفصلية في تاريخ الجزائر، فما يستحوذ على اهتمامها هو هذا المزاج الموسيقي الذي جمع بين اليهود والمسلمين والبربر، وكأن الموسيقى بهشاشتها ونغماتها الشجية استطاعت أن تبرز المشترك الإنساني بمعزل عن الاختلافات الدينية والعرقية التي راحت تكرسها حكومات الاستقلال في العالم العربي، والتي راحت بنيتها الاستبدادية تتقوض على وقع «الربيع العربي»، ومع أن الفيلم لا يلتفت إلى هذه الإشكالية، نجد أن البحث في جوانب الحياة النقية و «الباهية»، بالتعبير المغاربي، كما تفعل بوصبايا في هذا الفيلم، هو نوع من نشدان الخلاص والتوق إلى التحرر، من دون أن يكون ذلك متعمداً.