تفاقمت الأزمة السياسية في مصر على خلفية أحداث ميدان التحرير، خصوصاً بعد تزايد أعداد القتلى إلى أكثر من ثلاثين واستقالة حكومة عصام شرف أمس، ما رفع الحشد في شكل لافت ووضع البلاد في أجواء «ثورة ثانية». وفي وقت أعربت واشنطن عن قلقها داعية إلى ضبط النفس، أعلن أكثر من مئة ديبلوماسي دعمهم مطالب المحتجين، ودعوا المجلس العسكري إلى تسليم السلطة للمدنيين. ووضعت الأطراف الفاعلة في الأزمة نفسها في مواقف صعّبت عليها التراجع، فالقوى الإسلامية، وعلى رأسها «الإخوان المسلمين»، دانت قتل المتظاهرين، لكنها أصرت على بدء الانتخابات البرلمانية في موعدها الأسبوع المقبل، وأصر المتظاهرون على إعلان جدول زمني لتسليم السلطة للمدنيين وتشكيل حكومة إنقاذ وطني، ودعوا إلى تظاهرات «مليونية» اليوم. ونقلت «وكالة أنباء الشرق الأوسط» عن الناطق باسم مجلس الوزراء محمد حجازي أن الحكومة قدمت مساء أول من أمس استقالتها إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وأوضح أن «الحكومة وضعت استقالتها تحت تصرف المجلس. وتقديراً للظروف الصعبة التي تجتازها البلاد في الوقت الراهن، فإنها مستمرة في أداء مهماتها كاملة إلى حين البت في استقالتها». وتردد أن المجلس العسكري قبل الاستقالة. وفي واشنطن، أعرب البيت الأبيض أمس عن «القلق الشديد» حيال أعمال العنف في مصر، داعياً جميع الأطراف إلى «ضبط النفس» وإلى مواصلة عملية التحول الديموقراطي. وقال الناطق باسم الرئاسة الأميركية جاي كارني: «نشعر بالقلق الشديد لأعمال العنف، وندعو جميع الأطراف إلى ضبط النفس»، مشدداً على أنه «من المهم أن تواصل مصر التقدم» على طريق الانتقال الديموقراطي. وقبل ذلك بقليل، دعا أيضاً البنتاغون إلى «ضبط النفس». وقال الناطق باسم وزارة الدفاع الأميركية الكابتن جون كيربي: «نشارك بالطبع الجميع القلق إزاء أعمال العنف هذه وندعو كل طرف إلى ضبط النفس». لكنه شدد على أن وزارته «مرتاحة لرغبة المجلس العسكري في إجراء الانتخابات». وطالب الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون أمس السلطات المصرية ب «ضمان حماية حقوق الإنسان، بما فيها حق التظاهر السلمي» وحض جميع الأطراف على الهدوء لتسهيل إجراء انتخابات «سلمية وواسعة المشاركة». وأعرب عن «قلقه البالغ حيال العنف». وفي تطور لافت، أصدر أكثر من مئة ديبلوماسي مصري بياناً يدين العنف ضد المحتجين ويدعم مطالبهم، وعلى رأسها تحديد جدول زمني لنقل السلطة. ولم يفلح إصدار المجلس العسكري قانوناً لحظر ترشيح «من يثبت تورطهم في إفساد الحياة السياسة»، في امتصاص غضب المتظاهرين الذين اعتبروه «مسكنات للالتفاف على المطالب». ورغم تأكيد المجلس العسكري إجراء الانتخابات في موعدها، إلا أن الشروع في العملية الانتخابية وسط هذه الأجواء المتوترة سيفقدها زخمها، لكن القوى السياسية خصوصاً الإسلامية منها أصرت على إجراء الانتخابات وحذرت من «ثورة ثانية» إن أرجئت، حتى أن جماعة «الإخوان» ترى في هذه الأحداث «محاولة استدراج» لإلغاء العملية الانتخابية، حسب الناطق باسمها الدكتور محمود غزلان، وقررت عدم المشاركة في التظاهرات «كي لا تستدرج إلى هذا المخطط». وفي المحافظات، اندلعت تظاهرات أمام مديريات الأمن في الإسكندريةوالسويس والدقهلية وقنا والمنيا والأقصر وأسيوط. وأغلق المتظاهرون الطرق المؤدية إلى مديريات الأمن وحاول غاضبون اقتحام بعضها احتجاجاً على أحداث التحرير. وتظاهرت حشود أمام مقر قيادة المنطقة العسكرية الشمالية في الإسكندرية، كما تظاهر مئات أمام مقر الحاكم العسكري في السويس. وأعادت هذه الأجواء إلى الأذهان الموجة الأولى من الانتفاضة الشعبية في كانون الثاني (يناير) الماضي. وبات شارع محمد محمود الرابط بين ميدان التحرير ومقر وزارة الداخلية من أشهر وأخطر شوارع القاهرة، فالمشهد المروّع يبدأ عند مدخله من ناحية الميدان بمجموعات من الشباب تحمل المصابين لنقلهم إلى المستشفى الميداني الذي عاد للعمل مجدداً كما كانت الحال في أيام «ثورة 25 يناير». واجهة الجامعة الأميركية المحطمة في بداية الشارع توحي بمعركة عنيفة دارت رحاها في هذه المنطقة. وأرضية الشارع غطتها الحجارة التي يستخدمها المتظاهرون في رشق قوات الأمن، فضلاً عن مئات النتوءات التي خلَّفها سيل القنابل المسيلة للدموع التي تلقيها قوات الشرطة على المتظاهرين. نبرة الانتقاد هنا مرتفعة. فالهتافات لا خط أحمر يحدها، ونال منها رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة المشير حسين طنطاوي الجانب الأكبر. وفي الطريق إلى مقر وزارة الداخلية حيث الاشتباكات المتواصلة بين المتظاهرين وقوات الأمن، يتمركز المسعفون و«المساعدون» الذين ابتكروا خلطات لحماية المتظاهرين من استنشاق الغاز المسيل للدموع الذي اختلط بهواء المنطقة. عشرات الشباب ينتشرون بزجاجات الخل المخلوطة بمطهرات للوقاية من أضرار القنابل. حجم الدمار أمام بوابة مكتبة الجامعة الأميركية القريبة من وزارة الداخلية أكبر من الدمار عند ناصية الشارع، فبوابة المكتبة محترقة وأسوارها باتت سوداء من غبار الحرائق. والسيارات المدمرة بدأت تظهر يعتليها شباب يقذفون الأمن بالحجارة. وأمامها وضعوا متاريس من يتخطاها يكون داخل منطقة الخطر، فلا يسمح للأطفال بالاستمرار في التقدم لئلا تدهسهم جموع الشباب أثناء لحظات الكرِّ والفرِّ المستمرة طوال اليوم بين المتظاهرين وقوات الأمن. الدراجات البخارية موجودة بكثافة للإسراع بنقل الإصابات الخطرة إلى المستشفى الميداني. أسوار البنايات امتلأت كلها بالشعارات المنتقدة للمجلس العسكري والمطالبة بتسليم السلطة، فضلاً عن سيل من السباب كاله المتظاهرون للشرطة. وفوق هذه الأسوار يتمركز «شباب الاستطلاع» الذين ينبهون الحشود على الأرض إلى تقدم قوات الأمن تجاههم استعداداً للتقهقر ناحية الميدان. وعلى بعد أمتار من سور وزارة الداخلية، يتمركز آلاف من جنود الأمن المركزي على أهبة الاستعداد مدعمين بآليات للجيش لمنع اقتحام مقر الوزارة. ولا تفصلهم سوى أمتار قليلة عن الصفوف الأولى للمتظاهرين المصرِّين على مواصلة تقدمهم الذي لا توقفه إلا زخات من القنابل المسيلة تفتت الحشد، غير أن «السحر يرتد على الساحر»، ويعيد الشباب قذف القنابل بمهارة لتدب الفوضى في حشود الجنود.