فتح تطور التكنولوجيا وسقوط الحواجز والعوائق الجيولوجية آفاقاً جديدة، خصوصاً تلك المتعلقة بإنتاج النفط والغاز من طبقات ذات مسامية عالية ونفاذية محدودة أو معدومة، أي أن الصخور تحوي نفطاً وغازاً في مساماتها لكنها غير قابلة للجريان لعدم اتصال المسامات بعضها ببعض. ويجب أن لا نفاجَأ يوماً إن علمنا أن احتياطات النفط والغاز الطبيعي في ما يسمَّى الصخور الصماء أكثر من الاحتياطات المعروفة في الحقول التقليدية. ولكون الصين ومساحتها الشاسعة تعتبَر الأكبر حظاً لاحتواء كميات كبيرة من هذه الاحتياطات، نجد الصين اليوم متواجدة كشريك بنسب مختلفة في كثير من العمليات النفطية في الأميركتين، ولهدفين، الأول هو ضمان تجهيزات نفطية للمستقبل، والثاني والأهم، هو كسب الخبرة ونقل التكنولوجيا لاستغلال حقول وطبقات نفطية مشابهة من ضمن أراضيها الشاسعة. قلصت الولاياتالمتحدة استيراداتها النفطية من دول «أوبك» بمقدار مليون برميل يومياً منذ 2007، لتبرز البرازيل وكولومبيا مجهزين رئيسين بمستويات تفوق الواردات الأميركية من الكويت. كذلك، فإن إمكانية الأميركتين في توفير بدائل من مصادر غير تقليدية كالنفط والغاز الحجري والكحول وتقليص اعتمادها على تجهيزات خارجية، خصوصاً من دول «أوبك»، أمر يدعو إلى الانتباه كمؤشر للأهمية باتجاه معاكس لما تتمناه «أوبك» بعدما اعتادت أن تكون المؤثر الأكبر في القرار النفطي العالمي. وهناك أسئلة كثيرة تستدعي الطرح إن أردنا أن نفهم أو نبرر أو نتجنب ما حدث أو قد يحدث: 1 - هل للقفزات السعرية التي شهدتها الأسواق في العقد الأخير علاقة بالتطورات التي شهدناها أخيراً أو نتوقعها؟ 2 - ما هو المنطق المبرَّر لكون أسعار النفط السائدة هي أكثر من أربعة أضعاف ما كانت عليه مطلع القرن الحالي؟ 3 - لماذا لا تشكو الدول العظمى والمستهلكة من القفزات السعرية بعد ما شهدناه من احتجاجات، وحتى شتائم من هذه الدول في سبعينات القرن الماضي بعد تصحيح الأسعار لإزالة غبن دام أكثر من نصف قرن؟ 4 - لماذا يطالبون «أوبك» بزيادة الطاقات الإنتاجية وهم يعملون ويستهدفون جعلها عاطلة وفائضة؟ طرح هذه الأسئلة أمر منطقي وسهل، لكن قد تكون الإجابة بدقة وثقة صعبة. غير أننا يمكن أن نتوصل إلى مؤشرات تهدينا وتساعدنا على تجنب المطبات والنكسات وعلى أقل تقدير تجاوزها بأضرار محدودة وليس كما حدث في أواسط ثمانينات القرن الماضي عندما فوجئنا بانهيار الطلب على نفوط «أوبك» إلى اقل من نصف ما كان عليه في أوجِه، وبأسعار متدنية جداً، ما اضطر بعض الدول الأعضاء إلى الاقتراض بعدما كانت دولاً تتمتع بفوائض مالية. طبيعي أن يحاول كل فرد وأسرة وشعب ضمان متطلباته الآنية والمستقبلية بمقدار كافٍ من الثقة، وعليه فإن قيام مستهلكي الطاقة ونحن منهم، بضمان إمداداتها للأمد الطويل أمر مشروع. وهناك دوماً كلام عن نضوب النفط والغاز لافتراض محدودية تواجدهما من دون الأخذ في الاعتبار أن مساحات شاسعة من الكرة الأرضية لم تستكشَف بعد، وكذلك الإمكانيات الهائلة للبشر لإيجاد حلول وبدائل لمواجهة أي شح أو مأزق. ذكرنا في الجزء الأول من هذه المقالة أمس، أن الاحتياط النفطي العالمي خمِّن مطلع القرن الماضي بنحو 42 بليون برميل، واليوم وبعد مرور نحو قرن، استهلِك خلاله أكثر من تريليون برميل، يتكلمون عن احتياط يفوق 1.4 تريليون برميل من النفط التقليدي وأضعاف أضعاف ذلك من نفوط أخرى ثقيلة وأسفلتية وصخرية وغيرها، هذا فيما عمليات الاستكشاف مستمرة في المياه العميقة جداً وستبدأ قريباً حتى في المناطق القطبية. إن موضوع الشح والنضوب إذاً، أمر غير وارد ولزمن طويل. وبسبب ضبابية المعلومات وسرية معظم الخطط، ليس بالإمكان وضع خطة لما علينا اتخاذه من إجراءات لضمان الحد من التأثيرات السلبية لخطط الغير، لكننا بكل تأكيد قادرون على رسم سيناريوهات مختلفة ووضع خطط لكل منها. بيد أن ذلك يتطلب جهداً وزمناً غير محدود، وعليه فالأفضل هو اعتماد السيناريو الأسوأ والتخطيط لمجابهته. والسيناريو الأسوأ هو النمو التدريجي لإنتاج النفط التقليدي وغير التقليدي خارج دول «أوبك» وزيادة حصة مصادر الطاقة غير الهيدروكربونية في استهلاك الطاقة العالمي. وستكون نتيجة ذلك في الأمد البعيد انكماشَ الطلب على نفوط «أوبك» ومنتجاتها الهيدروكربونية وانخفاض أسعارها إلى مستويات توازي تكاليف البدائل من المصادر الأخرى. وبالنسبة إلى دول «أوبك» فإن انخفاض الأسعار وانكماش الطلب على نفوط المنظمة، وهو أمر قد يتزامن مع نضوب الإنتاج عند بعضها وتحولها إلى دول مستوردة وليس مصدرة، سيعني شحاً في الإيرادات من مبيعاتها النفطية. وعليه، فإن على هذه الدول أن تخطط لتأمين مصادر بديلة للإيرادات وربما مصادر طاقة بديلة. وبما أن لكل دولة نظامها وسياستها ومن الصعب وضع صيغة قابلة للتطبيق في كل دول «أوبك»، خصوصاً أن كونها دولاً منتجة ومصدرة للنفط هو العامل المشترك الوحيد بينها، قد يكون من المفيد أن نسطر بعض الإجراءات والمبادئ العامة المفضل اعتمادها في تطوير خططنا لمواجهة ما قد يأتي في المستقبل تعزيزاً للوقاية وتجنباً للعلاج. على دول «أوبك» أن تستغل إيراداتها وتزيد وقايتها بإجراءات عديدة منها: 1 - الاستثمار في مشاريع ذات مردود مستمر وطويل الأمد تؤمّن لها إمدادات مالية جديدة وبديلة للنفط. 2 - العمل لتحقيق قيمة مضافة من تصنيع هيدروكربوناتها محلياً، سواء في صناعات بتروكيماوية أو صناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة. 3 - المساهمة الفاعلة في جهود «أوبك» لموازنة العرض والطلب العالميين للحفاظ على الأسعار وعلى القوة الشرائية لقيمة برميل النفط. 4 - ترشيد الاستهلاك المحلي عموماً والحد من الهدر في النفقات على حساب المستوى المعيشي للأجيال المقبلة. 5 - إعطاء الأولوية للتعليم والتثقيف بمستوياته المختلفة ودعم البحث العلمي لإيجاد جيل مسؤول ومحصن يعطي لبلده أكثر مما يريد منه. 6 - زيادة الشفافية في المجالات كلها ليكون الفرد المواطن واعياً لما له وما عليه. 7 - تكثيف الجهود الرقابية لضمان تحقيق أقصى الكفاءات الإنتاجية للاحتياطات الهيدروكربونية وجدولة استنزافها للتناغم مع الاحتياجات المالية وضمان بعضها للأجيال المقبلة من دون المساس باقتصادات العملية الإنتاجية. ومن المنصف أن نذكر أن عدداً من دول «أوبك» قد اعتمد العديد مما تقدم، منها قطر. * كاتب متخصص في شؤون الطاقة