مع انتشار البث التلفزيوني الفضائي بطريقة غير مسبوقة، صار واضحاً تماماً أن حدوداً كثيرة باتت تفرق بين مفاصل مجتمعية كثيرة، كأن نقول إن الحدود، مثلاً، بدأت بالامّحاء بين الكبار والصغار لجهة شؤون التربية والتعليم، لا بل إن التلفزيون نفسه أخذ يحتل موقعاً «ريادياً» في هذا الصدد، وأصبح إلى جانب المدرسة والعائلة يقوم بعملية التلقين والتدريس، وإن بطريقة لا تتشابه بأي حال مع المناهج المدرسية التقليدية المعتمدة، التي نشأ معظمنا عليها. الآن، تختلف الوجهة تماماً، وليس هناك من فرضيات يعوّل عليها في أن هذا التلفزيون قد يخفف من حدة سطوته، وتأثيره في حياة الناس سلباً وإيجاباً، بالطبع، كي لا يقتصر توصيفه على الجانب السلبي الذي تضمره كتابات كثيرة تتناوله دائماً بالسوء باعتباره صندوق «البلاوي» المنزلية، كما يشبهه بعضهم... مع علمنا اليقين أن تأثيره لن يقف في حدود نقل المعلومة الممنهجة أو تنميطها، بحيث تخلق معها إنساناً جديداً قد يكون قادراً على التكيف مع رسائل عدة في وقت واحد، كما ينبّه علماء اجتماع كثر في هذا الصدد، وهذا يخفف من غلواء مهاجميه قليلاً. وما يحدث على الأرض قد لا يختلف كثيراً، فنحن دائماً كنا شهوداً على حالات من المماهاة يولدها بث عمل درامي متلفز بينه وبين الجمهور، إذ سرعان ما تنتقل هذه العلاقة الناشئة إلى مرتبة أعلى من الرضا المتبادل، حين يقرر صاحب منشأة ما أن يطلق على منشأته اسم العمل التلفزيوني الذي حظي بأكبر نسبة متابعة بين الجمهور. فهذا يضمن له باعتقاده متابعة في الحضور، بغية نقل حالة التماهي الناتجة من عرض المسلسل إلى فرضية البث المستمر في الواقع، بالإضافة إلى الجدوى الاقتصادية التي ستعود على صاحب المنشأة من توكيد هذا التفاعل والانتقال بالجمهور إلى خانة مختلفة عن العمل المعروض. وقد حدث هذا كثيراً، فمن لا يذكر المسلسل المكسيكي «كاساندرا»، أو مسلسل «باب الحارة» الذي غير كثيراً من أسماء منشآت ونواد ليلية كانت تحظى بأسماء كبيرة ومعروفة، ولها وقع في عالم الفنون حين يرِد ذكرها. والآن يجيء المسلسل التركي المدبلج «الأرض الطيبة» الذي تبثه محطة «أم بي سي 1» ليحتل واجهة مطعم غزاوي، كما تقول الأخبار الواردة من هناك، ففي حين يقرر جهاد تايه صاحب المطعم، أن يطلق علىه هذا الاسم، فإنه لا يغادر فرضية البث المستمرة في الواقع مثل كثر سبقوه، بفارق هنا، أن «الحالة الثورية» التي قدمها أبطال المسلسل هي الدافع الرئيس، بالإضافة إلى الجدوى الاقتصادية التي لا ينكرها تايه، والمتمثلة بالازدحام حين يقوم بعرض المسلسل. هذا ما هو متعلق بالفائدة الاقتصادية، أما في ما يخص البث المستمر في الواقع، فإنه يكمن في سؤال ولد صغير لصاحب المطعم عن أبطال مسلسله الأثير، وما إذا جاؤوا لتناول طعامهم حين يقارن بين لافتة المحل، وتيترات المسلسل.