أن تكون ثائراً في حمص، فهذا أمر طبيعي جداً، فالمدينة بمعظم أحيائها باتت ثائرة اليوم، لكن المعضلة الحقيقية تكمن في أن تكون علوياً أو مسيحياً، وتكون إلى جانب الثورة أو ناشطاً بارزاً في التظاهرات، بخاصة إن كنت تقطن في حي يشبه كانتوناً طائفياً محمياً من جانب حواجز أمنية أو «شبيحة». في حي الزهراء في حمص (الجزء الشرقي للمدينة)، وهو ذو غالبية علوية، يوجد عدد كبير من المعارضين التقليديين، وهم من معتقلي رابطة العمل الشيوعي السابقين، أو من معتقلي بعث العراق والبعث السوري، أو من الحزب الشيوعي – المكتب السياسي سابقاً. وعلى رغم كثرة أعدادهم، فإن أعمارهم الكبيرة والمرارة التي كابدوها في سجون النظام لأعوام وعقود في الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي حيدتهم نوعاً ما عن حراك الشارع المنتفض، ما كرس حالة الانفصال بين الأحياء الموالية وتلك المعارضة. لكن ومنذ اليوم الأول للثورة، بدأت بوادر معارضات شبابية نابعة من وعي للظروف السياسية بعيداً من التأطير الحزبي. شباب غير حزبيين شباب مسرحيون ومثقفون وصحافيون وموسيقيون شاركوا منذ التظاهرة الأولى، لكن بحذر شديد. ففي البداية كانت الأحياء التي ينتمون إليها لا تعارض بشدة مشاركتهم، إلى أن بدأت حملات التخويف والرعب المنظمة التي قادها النظام على حد تعبير أحد النشطاء المعارضين، وبإقرار الكثير من الموالين، في تلك الأحياء بدءاً بالسيارات المجهولة التي تمر بأحياء النزهة وعكرمة (وسط المدينة وإلى الجنوب منها بمحاذاة باب السباع والفاخورة) وأحياء الزهراء والأرمن (شرق المدينة بمحاذاة أحياء البياضة وجب الجندلي ودير بعلبة وعشيرة)، وصارت هذه السيارات تطلق الرصاص في الشوارع، وتحديداً على الأحياء العلوية والمسيحية، وسط انسحاب كامل للأمن والشرطة خلال أسبوعين كاملين، وذلك في الشهر الأول للاحتجاجات في حمص. تبع ذلك انتشار فوبيا العرعور وإشاعات يومية وتقويله ما لم يقله. عزز ذلك قيام الأحياء الثائرة بالتكبير بعد انتهاء حلقته على إحدى القنوات الفضائية. وهنا لا بد من التذكير باعتصام حمص الشهير الذي دام حوالى 9 ساعات، والذي انتهى بمجزرة تبعتها تكبيرات من مساجد حمص وشوارعها ودعوات ل «الجهاد»، ويظن معظم الثوار أن مطلقي هذه الدعوات «الجهادية» هم من أجهزة الأمن، اذ إن إحدى السيارات التي أطلقت العنان لدعوات الجهاد كانت سيارة إطفاء موجودة مع الأمن، الهدف منها وسم المحتجين بالسلفية، وصولاً إلى قصص الخطف مجهولة الجهة المنفذة، والتي راح ضحيتها عشرات الشباب العلويين تنكيلاً وقتلاً. وهي وإن أثارت شكوكاً حول هوية منفذها، فإنها تطرح تساؤلاً عن أهلية وفعالية الحل العسكري والأمني المتبع مع حمص منذ الشهر الثاني للثورة. لهذا كله بات الشباب العلوي والمسيحي اليوم أمام خيارين: إما ان يتخلوا عن مشاركتهم بالحراك في حمص، أو الطرد والتنكيل، وحتى التهديد الفعلي بالقتل على يد شبيحة الحارات التي يعيشون فيها. ولا يقتصر التهديد على النشطاء وحدهم، بل يصل الى حد تهديد الأهل والأقارب. فالبيئة المحيطة كالزهراء والأرمن وعكرمة تعيش حالة غضب وخوف ورعب من عمليات الخطف والقتل والتنكيل، وتشهد على ذلك مقبرة الفردوس (مقبرة لموتى الطائفة العلوية) الممتلئة بالقبور، كما تشهد على ذلك حالة الريبة والخوف الواضحة في شوارع الزهراء والأرمن وغيرها، مع تجييش إعلامي وحملة إشاعات باتت معها الحقيقة مختلفة بين حي وآخر. وتعرض عدد من الشباب العلويين في الزهراء للاعتقال كالشاب دُمّر سليمان، صهر عضو مجلس الشعب السوري لأربع دورات متتالية شحادة كامل ميهوب، وذلك على خلفية مواقفه المعارضة. وسبَب اعتقاله إطلاق حملة إشاعات في الزهراء ابسط ما ورد فيها اتهامه بالتموّل من «الخليج»، والأخطر إلصاق تهمة تسهيل خطف العلويين لحساب المعارضة، وهذا طبعاً عار عن الصحة لكون الناشط السياسي دمّر السليمان يسارياً وعلوياً في الأساس. ولم يكتف شبيحة النظام بكيل الاتهامات للشاب دمر سليمان، بل طاولت تلفيقاتهم والد زوجته، عضو مجلس الشعب شحادة ميهوب وأقرباءه، مما تسبب بانتقال عدد من أفراد عائلته الى خارج حمص مخافة ردود الفعل. يضاف إلى ذلك اعتقال الشاب محمد ابراهيم في الحي نفسه، وإطلاق إشاعات تطاول سمعته وسمعة عائلته ومقاطعة شبه كاملة من معظم أهالي الحي للعائلة، بسبب اعتقال محمد أو مخافة تفسير العلاقة مع عائلته كتعاطف مع مواقف محمد. كما تم اعتقال شخصيات معارضة علوية معروفة كالمعارض نايف سلوم وأبو علي محمد صالح الذي اعتقل لساعات عدة، وهو أحد أعضاء ما يعرف بلجنة التضامن الأهلي التي أخذت على عاتقها تهدئة نفوس الأهالي من كل الطوائف عقب عمليات استفزاز طائفي وتقريب وجهات النظر والحفاظ على التضامن بين أطياف المجتمع الحمصي. وبسبب حملات التخوين والاعتقال، فقد غادر عدد كبير من النشطاء العلويين والمسيحيين حمص، وبخاصة المسيحيين في أحياء الحميدية وباب السباع. الاستهداف المضاعف الفترة الأخيرة شهدت حوادث عدة قاسية بحق الناشطين من الأقليات. فقبل أسابيع تعرض منزل لآل ملحم، وهم من العائلات العلوية المعروفة في قرية أبو حكفة التابعة لمنطقة المخرم (شرق حمص) للحرق وتحطيم إحدى السيارات الخاصة بأحد أفراد العائلة بسبب مواقف عدد من أفراد العائلة المعارضة للنظام. كما تم اعتقال الطبيب علي ملحم من منزله من طرف أجهزة الاستخبارات، وعلي ملحم شاب في العشرينيات صرح عن مواقفه المعارضة للنظام مرات عدة. وللمفارقة، فإن علي ملحم تخرج في كلية الطب البشري في حلب قبل أشهر قليلة، وكان الأول في دفعته، كما تخرج في العام نفسه في كلية الترجمة، قسم التعليم المفتوح، وبدرجات عالية. وكانت عائلة ملحم ذاقت الويلات أيام حكم الرئيس الراحل حافظ الأسد حيث اعتقل عدد من الإخوة بتهمة الانتماء الى رابطة العمل الشيوعي في الثمانينات. وعلى رغم أن عائلة ملحم هي من اكبر العائلات العلوية، وتحوي عدداً كبيراً من المثقفين من أطباء ومهندسين، فإن حياتهم مهددة. كما تعرض الناشط المعارض ومراسل تلفزيون «الدنيا» السابق في مدينة حمص، يامن حسين، لحملة تشهير وتخوين في أحياء الزهراء وعكرمة على خلفية استقالته من هذا التلفزيون، ومواقفه من الثورة والنظام، ما اضطره الى مغادرة حمص. وعلى رغم ذلك، فإن عائلته تتعرض لمضايقات يومية وتهديدات. ويتذكر كثيرون المعارض المعروف محمود عيسى، وكيف هجمت قطعان من الشبيحة، مدفوعين بأمر أمني على منزله في حي الأرمن على رغم وجود أطفاله داخله، وذلك على خلفية حديث هاتفي له على قناة «الجزيرة». فكان أن اضطر بعض أصدقائه للاتصال بالجهات الأمنية وطلب حمايته. فقام فرع الأمن العسكري باعتقاله وإلصاق تهم عدة به، منها استخدامه هواتف الثريا وفبركة فيديوات وأخبار. في حادثة أخرى أعقبت اعتصام الساحة في حمص، تعرض الطبيب منصور العلي من حي عكرمة لمضايقات وتهديدات هو وابنته الصحافية ديمة العلي على خلفية مشاركتهما باعتصام حمص، واتصال الصحافية ديمة بقناة «الجزيرة». طبعاً كان الاعتصام الحمصي الشهير علامة فارقة في تاريخ ثورة حمص وسورية، من خلال حجم المشاركة وتنوعها فيه وحالة التفاعل الأهلي معه، وميزه خيمة وسط ساحة الاعتصام، سميت خيمة الوحدة الوطنية، تم فيها استقبال الناشطين والمشاركين من مختلف الطوائف. اختراق الطوق بعد جهد مضن قمنا بجولة سرية في حمص زرنا خلالها عدداً من النشطاء العلويين، الذين بدت حركتهم خفيفة قياساً بالأسابيع السابقة بسبب ما تعرضوا له. وخلال الجولة التقينا عدداً من النشطاء الذين تتراوح أعمارهم بين ال 24 وال 30 عاماً، وبينهم عدد كبير من الشابات، هم بمعظمهم غير حزبيين، وطلاب جامعات. يرفض هؤلاء الشباب إلصاق تهمة التشبيح بالطائفة كلها، فمعظم أبناء الطائفة تم دوسهم من النظام على حد قولهم، وعانت الطائفة من الإفقار والتهميش، وهو واضح في شكل جلي في أحياء المهاجرين والزهراء ووادي الذهب، التي لا تختلف بشيء عن الأحياء الثائرة من حيث الأبنية العشوائية وغياب أبسط الخدمات. تروي ندى، وهذا اسم مستعار لإحدى الشابات العلويات من حي عكرمة، أنها تشارك في التظاهر، وتقوم مع عدد من زميلاتها بإيصال الدواء والمساعدات العينية والطبية إلى الأحياء المنتفضة، كما تقوم مع صديقاتها وأصدقائها بعقد حوارات سرية مع شبان وشابات من الثائرين، وأغلب هذه الحوارات يتم في أحياء الإنشاءات والخالدية والحمراء والقصور وباب السباع، وموضوعها السعي لتطويق أي أزمة طائفية. وغالباً ما يتوصل هؤلاء الشباب إلى حلول لتلك الأزمات التي يفتعلها في رأيهم النظام، أو بعض الأشخاص المتطرفين الذين دفعهم النظام دفعاً إلى روح الانتقام. من جهة أخرى، يبرز على الأرض في حمص تجمع «نبض» للشباب المدني السوري، والذي استطاع جذب عدد كبير من شبان وشابات جامعيين ومن مختلف الطوائف والملل، وتمكن من بلورة حالة حراك مدني حقيقي في مدينة حمص. وفي إحدى التظاهرات التي نظمها التجمع في حي الخالدية خرج شاب من الطائفة العلوية ليلقي بياناً باسمه وباسم الشباب العلويين. وعلى رغم رفض التجمع خطاباً يعرف الأفراد بطوائفهم، لكن «اقتضت ضرورات الحفاظ على السلم الأهلي التساهل في هذا الأمر». كما قام التجمع بتوزيع مناشير تحض على الثورة والابتعاد عن الغريزة الطائفية في كل الأحياء الثائرة في حمص، وحقق شباب هذا التجمع معجزة حقيقية، فقد قام عدد من الناشطين والناشطات بتوزيع تلك البيانات والمنشورات في الأحياء المحسوبة على الموالاة في حيي عكرمة والزهراء وغيرهما، على رغم الحواجز الأمنية الكثيفة وكثرة المخبرين. وسببت تلك المناشير استنفاراً امنياً من جانب أركان الشبيحة الذين أمسوا أدوات قمع الأحياء العلوية قبل غيرها. ويعزو النشطاء العلويون أسباب عدم وجود أحياء علوية ثائرة بكاملها الى ما اتبعه النظام منذ اليوم الأول للثورة، من حملات تخويف مركزة وتجييش غرائزي أسس له الإعلام الرسمي. فكان أن غاب الحاضن الاجتماعي للثورة في الأحياء العلوية، وفي مدينة حمص تحديداً. هذا مع وجود عدد كبير من أبناء هذه الأحياء المنخرطين في سلك الأمن والشرطة أو في الجيش، بفعل سياسة ممنهجة اتبعها النظام منذ 40 عاماً. وبالنتيجة أصبحت الأحياء العلوية معتقلة تماماً طوال 40 عاماً.