تان تان لم يفارقنا يوماً، على رغم مرور 28 عاماً على وفاة مبتكره الرسام هيرجي. ففي أعماق البحار وعلى القمم المكللة بالثلوج وفي الفضاء الخارجي، لا ينفك تان تان يواجه الأخطار ويتصدى للظلم. ووجهه مألوف في القارات الخمس. واليوم، ينقل المخرج ستيفن سبيلبرغ، صاحب «إي تي»، تان تان إلى الشاشة، ويشرع أبواب الأسواق العالمية أمامه، وينفخ فيه حياة جديدة. أبصر تان تان النور في كانون الثاني (يناير) 1929 على صفحات ملحق صحيفة «فانتيام سياكل» البلجيكية المخصصة للأطفال. وأعلنت الصحيفة أنها أرسلت أفضل مراسليها إلى روسيا السوفياتية: تان تان. واستوحيت معالم وجه البطل الشاب من شخصية صبي من الكشافة رسمها جورج ريمي الذي عرف لاحقاً بهيرجي. واقترح نوربرت فاليز، مدير «فانتيام سياكل» الفاشي الميول، فكرة التقرير المتخيل لاستقطاب القراء الشباب. وتشبه طباع تان تان طباع بول، شقيق هيرجي الأصغر. وثمة أوجه شبه بين مواقفه المعادية للشيوعية وجسارته ومواقف الصحافي روبرت لوركان، مراسل «فانتيام سياكل» الذائع الصيت يومها. فهو قابل غوبلز وموسوليني، وسافر إلى طوكيو ونقل أخبار التدخل العسكري الياباني في الصين. وثمة صحافي آخر في الصحيفة هذه تباهى بأن شخصية تان تان حاكت شخصيته، وهو ليون ديغريل الذي أسس في مرحلة لاحقة حزباً يمينياً متطرفاً تحالف مع هتلر. ولكن رفض هيرجي التعاون معه. وثمة مؤشرات كثيرة إلى أن تان تان احتذى على سيرة الصحافي الفرنسي الكبير ألبير لوندر. وفي أول طبعة من «اللوتس الزرقاء» (1934 - 1935)، نزل تان تان في فندق «يوروبيان بالاس» بشنغهاي، شأن لوندر. وفي هذه المدينة، كتب لوندر تقريره الأخير عن الحرب اليابانية – الصينية، قبل فقدان أثره في انفجار سفينة «جورج – فيليبار». وقبل رحيله، أعلن لوندر أنه عثر على وثائق تفضح تجارة الأفيون العالمية. ولا شك في أن هيرجي غرف من سيرة لوندر وترحاله ووفاته الغامضة. وراستابوبولوس هو وجه الشر في مغامرات تان تان. وهو مليونير يوناني يبرز الشبه بينه وبين أرسطو أوناسيس في «كوك في المخزن». فهو يقيم حفلات صاخبة في يخته، وتملأ أخبار مغامراته العاطفية الصحف. ويرى هيرجي أنه أنموذج رجل الأعمال الدولي المكروه في أوروبا ما بعد أزمة 1929. ويعود تاريخ التقاء راستابوبولوس بتان تان إلى كانون الأول (ديسمبر) 1932. ودار نزاع بينهما على متن سفينة تقلّهما إلى مصر في مطلع «سجائر الفرعون»، قبل أن يتصالحا.. ولا يكتشف البطل المصور أن راستابوبولوس هو عدوه اللدود إلا في نهاية «اللوتس الزرقاء». ويبدو أن تان تان لا يذكر لقاءه الأول الفعلي براستابوبولوس. فهو ظهر قبل أشهر قليلة بريشة هيرجي في آخر صفحات من «تان تان في أميركا» جالساً إلى مائدة في حفل يحتفي بنجاحه (تان تان) في مهمته بشيكاغو. ونسيان هيرجي وتان تان من بعده هذا المشهد يوحي بأن راستابوبولوس كان يدبر ما خفي على والد تان تان نفسه. وولد هيرجي بطلاً يتيماً لا أصل له ولا فصل. فهو تأثر برواية هيكتور مالو «بلا عائلة». وساعد عدد من الأصدقاء هيرجي في صوغ حبكات عدد من روايات تان تان، ومنهم الصحافي جاك ملكيبيك من صحيفة «لو سوار» التي استتبعها المحتل الألماني. وكتب ملكيبيك وهيرجي مسرحية «تان تان في الهند». وقدمه الأول لصديق طفولته إدغار جاكوبس الذي أصدر في وقت لاحق سلسلة «بلايك وموتيمر» المصورة. ونقل جاكوبس عدوى الشغف بالتفاصيل إلى هيرجي، وبرز أثر «عدوى التفاصيل» في «صولجان أوتوكار» وفي «7 كرات من الكريستال». وتقرب عدد من الرسامين اليافعين من والد تان تان، وعملوا في استوديو هيرجي الذي أنشئ في 1950، ومنهم بوب دي مور، وجاك لودي وبول كوفلي وجاك ماران (صاحب «أليكس») ومايكل غريغ (صاحب «كاحل أخيل»). وتولى هؤلاء رسم الشخصيات الثانوية وديكور الرسوم المصورة. ولم يخف الرسامون هؤلاء إعجابهم بهيرفي. وخصصوا جزءاً من مسيرتهم المهنية لتان تان، وأقروا بأن هيرجي هو وحده من يملك سلطة نفخ الحياة في بطله. ويغفل القراء أن ثمة رابطاً خفياً بين «صولجان أوتوكار» (1938) و «النجمة الغامضة» (1942). وينظر إلى المغامرتين على أنهما مرآة موقف هيرجي من الاحتلال الألمانية. وفي الأولى يندد بضم هتلر النمسا إلى ألمانيا. وفي الثانية يتصدى تان تان للمصالح الأميركية ولمصالح مصرفي يهودي في وقت يفرض النازيون على اليهود حمل شعار النجمة. وتظهر سجلات ملاحظات هيرجي أن الروايتين مترابطتين. ومدارهما على مؤامرة لإطاحة ملك دولة بلقانية أطلق عليها اسم «سيلدوري» في وقت أول، ثم «سيلدافي»، وعلى مادة «ثورية تغير أدوات الحرب. ويبدو أن صاحب فكرة المادة الثورية هو فيليب جيرار، زميل هيرفي القديم في الكشافة ومساعده في ابتكار الألعاب والأدوات. ودرج جيرار على تحذير صديقه من الأخطار المترتبة على بروز النازيين والحرب الحتمية. فشعر بالبرم من تنبؤات صديقه. فأبصرت شخصية فيليبولوس النور في مطلع «النجمة الغامضة»، ولاحقت تان تان بنذر الكوارث المقبلة والرؤى السوداوية التي تشبه يوم النشور. وإثر طي الحرب العالمية الثانية، لم يأتِ اليوم الموعود. لكن العالم على ما عرفه هيرجي أفل وطويت صفحته: فكثر من أصدقائه والمقربين منه اعتقلوا واتهموا بالعمالة مع المحتل الألماني. والحق أن قراءة المحلل النفسي سيرج تيسرون روايات المفتش الشاب تستوقف الاهتمام. ففي بحث عنوانه «تان تان في عيادة المحلل النفسي» (1985)، حلل تيسرون صور قصص تان تان، ويلاحظ أن التوأم عنصر ثابت في عالم هيرجي، ولاحظ أن ثمة غموضاً يشوب الأنساب في «سر وحيد القرن (الخرافي)». ففي الألبوم هذا، يظهر سلف الكابتن هادوك، القرصان فرانسوا هادوق. ويُلمح إلى أن القرصان هذا هو ابن لويس الرابع عشر غير الشرعي. ويتساءل تيسرون: هل هيرجي يتحدر من سلالة ملكية؟ ويرى المحلل النفسي أن هاجس التوأم في قصص تان تان المصورة يشي بظنون هيرجي في نسبه. وأعلن هيرفي أكثر من مرة أن التوأم دوبون يحاكي نموذج والده وعمه التوأم. وسبق تيسرون في استنتاجه مؤرخي سيرة هيرجي. وهؤلاء أماطوا اللثام في وقت لاحق عن أسرار عائلة هيرجي: جدته ليوني ديوينيه أنجبت ولدين في 1882 نسبا إلى أب مجهول. وتزوجت بفيليب ريمي في 1883، فحمل الولدان اسمه. وديوينيه كانت خادمة في منزل كونتيسة. وولدت أسطورة تحدر التوأم ريمي من أسرة أريستوقراطية. وذهب تيسرون إلى أن السلف الغامض هو ملك (قد يكون ملك بلجيكا ليوبولد الثاني الذائع الصيت نتيجة مغامراته النسائية). وقطع المستكشف فيليب غودان حبل الشك باليقين، إثر وقوعه على وثيقة عمادة التوأم. وتبين أن والدهما هو نجار أثاث فاخر اسمه ألكسيس كواسمن. لكن طيف نسبه الغامض لاحق هيرجي، وظهر في أعماله. وقبل 10 أعوام من إطلاق الاتحاد السوفياتي «سبوتنيك» إلى الفضاء وقبل 19 عاماً من هبوط «أبولو XI» على القمر، وصل تان تان إلى القمر. وسبق رائد الفضاء نيل أرمسترونع إلى إعلان: «هذه أول مرة في تاريخ البشرية يمشي إنسان على سطح القمر». وتوفي هيرجي في الثالث من آذار (مارس) 1983 من غير أن يتسنّى له إنهاء مغامرة بطله ال23. وترك وراءه كماً كبيراً من الملاحظات، والرسومات الأولية والوثائق. فاللوكيميا (سرطان الدم) حالت بينه وبين مواصلة الرسم. وتولى مساعده بوب مور إعداد مغامرة تان تان الأخيرة «آلف - آر» (فن آثار آلف). ولم يتسنَّ له وضع اللمسات الأخيرة على المغامرة هذه نتيجة إغلاق استوديو هيرجي في 1986. وبقيت مغامرة «آلف – آر» من غير خاتمة: تان تان يسير نحو الموت بعد أن طعن في ظهره، وخانات المشاهد اللاحقة بيضاء من غير رسوم. * صحافي، عن «لوبوان» الفرنسية، 6/10/2011، إعداد منال نحاس