بعد مخاض سياسي عسير استمر شهوراً عدة، نجح رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري في إيجاد مخرج قانوني لأزمة تمويل المحكمة الدولية. ويبدو أن صلابة موقف رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وإصراره على تنفيذ كامل القرار 1701، كانا العاملين المؤثرين وراء اجتراح الحل. علماً انه لمّح في أكثر من مناسبة إلى رغبته في الاستقالة إذا تعذّر على قوى 8 آذار الاستجابة لمطلب تأمين تمويل المحكمة. وهو مطلب وصفه ميقاتي، بأنه يصب في مصلحة الدولة والمقاومة معاً. وكان رئيس الحكومة قد بحث هذا الموضوع مع وزير «حزب الله» محمد فنيش، واتفقا على ضرورة تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، وعلى أهمية بقاء الحكومة خلال هذه المرحلة الصعبة من تاريخ المنطقة. ثم دخل على خط التهدئة البطريرك الماروني بشارة الراعي الذي أرسل وفداً إلى الرابية للقاء رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون، بهدف حضّه على المساعدة على استمرار الحكومة. خصوصاً أنه كان يمثل جناح المعارضة لمبدأ التمويل الرسمي، معلناً أن هذا الأمر يناقض موقف «حزب الله». لذلك، توجه إلى الرئيس ميقاتي، داعياً إياه إلى دفع الحصة المطلوبة من جيبه لا من صندوق الدولة! بعد اتصالات مكثفة قام بها الرئيس بري مع دمشق، تبين له أن المسؤولين السوريين يعولون كثيراً على الدعم السياسي والإعلامي اللبناني، خصوصاً بعدما تولى وزير الخارجية عدنان منصور دور الوزير وليد المعلم، متجاوزاً في تشدده الموقف العراقي الموجه إيرانياً. وفي التصور الذي قدمته دمشق للرئيس بري، حرصت على استخدام الحكومة اللبنانية كوسيلة ديبلوماسية مفتوحة على العالم، بعدما أغلق النظام السوري كل أبوابه على الولاياتالمتحدة ودول الاتحاد الأوروبي ودول الجامعة العربية وحليفته السابقة تركيا. وللخروج من فضاء العزلة الدولية، قرّر الرئيس بشار الأسد الاعتماد على الحكومة اللبنانية كملاذ أخير لتخفيف وطأة العقوبات الخارجية. في مواجهة الحملات المفتوحة ضده إقليمياً ودولياً، قرّر حزب البعث إطلاق تجمعات حاشدة مدعومة من إدارات الدولة، بغرض التعبير عن التفاف الشعب حول قائده. وأظهر التلفزيون الحكومي لقطات لآلاف الشبان يحملون صور الرئيس السوري ويلوحون بالأعلام السورية. وعرض التلفزيون الرسمي في هذه المناسبة صوراً تمثل قوات الأمن كضحايا للعصابات المسلحة. ويبدو أن هذه اللقطات لم تحصل على ردود فعل إيجابية من قبل الأجهزة الإعلامية الخارجية التي اتهمت الوزير وليد المعلم باستغلال التكنولوجيا للتدليل على أحداث حصلت في لبنان وليس في سورية. المنافسة الإيرانية – التركية حول رسم مستقبل سورية، كانت ناشطة هذا الأسبوع، على نحو غير مألوف. وقد استخدمت طهران الحرس الثوري لنهب السفارة البريطانية، الأمر الذي اضطر حكومة ديفيد كامرون إلى إقفال سفارة إيران في لندن. كذلك قرر عدد من الدول الأوروبية بقيادة فرنسا، اتخاذ موقف موحد لعزل إيران وزيادة العقوبات الاقتصادية ضدها. وتشير الصحف الإسرائيلية إلى استنفار القوات الجوية استعداداً للقيام بضربة تستهدف المفاعلات النووية الإيرانية، في وقت تشتد التهجمات السياسية – خليجية كانت أم أوروبية – ضد طهران. وكان من الطبيعي أن تدخل روسيا على خط الأزمة السورية، فيعلن رئيس الحكومة والمرشح للرئاسة فلاديمير بوتين أنه في صدد إرسال بوارج حربية إلى ميناء طرطوس. وقال إنه يحافظ على الصداقة التي حملها من قبله زعماء الكرملين لنظام الرئيس الراحل حافظ الأسد. ولكن المعارضة السورية حذّرت موسكو من التدخل في الشؤون الداخلية السورية لأن هذا الموقف سينعكس في شكل سلبي على العلاقات مع روسيا، عقب تغيير النظام. وزير خارجية تركيا أحمد داود أوغلو، قال يوم الأربعاء الماضي، في مؤتمر صحافي، إن بلاده ستجمد العمل بالاتفاقيات التجارية مع سورية، وتتوقف عن تسليمها أسلحة ومعدات عسكرية، في إطار إجراءات تهدف إلى إقناع الأسد بوقف قمع المحتجين. كما ذكر أن أنقرة ستمنع كبار رجال الحكومة السورية من دخول تركيا، مؤكداً أن أردوغان علّق العلاقات مع البنك المركزي السوري وأوقف اتفاقية التعاون إلى حين تشكيل حكومة جديدة في دمشق. ويرى المراقبون أن التغيير الجذري الذي طرأ على العلاقات السورية – التركية، كان بمثابة تحول تاريخي عطل عمل مجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين. وكان الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان قد وقعا في خريف 2009 اتفاقية لإنشاء هذا المجلس. ونوّه الأسد في حينه بالدور الذي تؤديه تركيا لوضع حد للحروب وتحقيق العدالة والتنمية. كذلك نوّه أردوغان بالدور «المفتاحي» الذي تقوم به سورية من أجل استقرار المنطقة وأمنها. وبعد اللقاء، وقّع وزير خارجية سورية وليد المعلم ونظيره التركي أحمد داود أوغلو، اتفاقية لتأسيس مجلس تعاون استراتيجي يشمل كل المجالات بما فيها السياسية والديبلوماسية والاقتصادية والنقل والطاقة والمياه والتعليم. واتفق خلال ذلك اللقاء على إلغاء تأشيرات الدخول بين مواطني البلدين. يتساءل كبار مسؤولي البلدين عن الأسباب الحقيقية التي أدت إلى تباعدهما بحيث انقلبت تلك الصداقة إلى عداوة سافرة. وهل صحيح أن التنكيل بالمعارضة السورية دفع أردوغان إلى الانقلاب على النظام السوري؟ المتتبعون الشأنَ الإيراني يدركون أن تركيا لم تربط سلامة علاقتها مع سورية، بالابتعاد عن نظام الملالي في طهران. وحدث في ربيع 2010 أن طرحت واشنطن في مجلس الأمن اقتراحاً يقضي بفرض عقوبات على إيران. وفوجئت الولاياتالمتحدة بممانعة أنقرة عن توجيه أي انتقاد إلى طهران. وتقول صحيفة «واشنطن بوست» إن المحادثات الصريحة بين أوباما وأردوغان على هامش أعمال قمة العشرين في تورنتو، قربت بين الزعيمين. واستغل الرئيس الأميركي ذلك الانفتاح للاتصال بأردوغان وتعزيته بوفاة والدته. ومن المؤكد أن موقف تركيا من ليبيا واليمن وسورية، خصوصاً لجهة تأييد ثورة «الربيع العربي»، كان المعيار الذي اتخذه أوباما للإشادة «بالعضو المسلم في حلف شمال الأطلسي». وفي الاجتماع الذي عقد هذه الأسبوع في السعودية بمشاركة ممثلين عن «منظمة التعاون الإسلامي»، ظهر الخلاف واضحاً بين مواقف وليد المعلم وعلي أكبر صالحي وأحمد داود أوغلو. وهي مواقف متعارضة تنبئ عن مستقبل مظلم بعد انسحاب القوات الأميركية من العراق. عندها تتقدم إيران وتركيا لملء الفراغ الأمني، في حال ساءت الأوضاع في سورية واضطر النظام إلى نشر قواته على الحدود العراقية – التركية. وسط هذا الزحام السياسي المرتقب، يتساءل نواب 14 آذار عن الغاية من استمرار الحكومة، ولو كان المبرر يتطلب تمويل المحكمة الدولية. وبحسب زعمهم، فإن انشغال قوات الأمن السورية بضبط المدن والقرى المتمردة، سيجعل من الصعب وقوف الدولة اللبنانية على الحياد، كما يطالب الرئيس ميقاتي. وهم يتوقعون العودة النهائية للزعيم وليد جنبلاط إلى صفوفهم، بعدما وضع رجلاً في البور ورجلاً في الفلاحة. ومع إعادة تموضع النواب المستقلين حول مرجعياتهم السياسية، ستشهد الساحة الانتخابية سنة 2013 غلياناً شعبياً يمكن أن يفرز عشرات الأحزاب، كما في تونس وليبيا ومصر. خصوصاً أن الشهور المقبلة ستظهر للرأي العام ولادة نظام جديد في سورية قد يكون بشار الأسد جزءاً منه. ومن المتوقع أيضاً أن تستغل دمشق الحكومة اللبنانية لتمرير رسائلها السياسية إلى الخارج. كما أن من المتوقع أن توظف حلفاءها لتسيير التظاهرات باتجاه السفارات، والانتقام من كل العناصر المعارضة للنشاط السوري - الإيراني على الأرض اللبنانية. ومعنى هذا أن «الحياد الإيجابي» الذي يدعو رئيس الحكومة إلى اعتماده سيحول إلى «حياد سلبي» في حال تخطت المساندة اللبنانية حدود المعقول والمقبول. في ظل الانقسام السياسي الذي تعيشه الساحة اللبنانية، يتخوف الزعماء من ترجمة التحذيرات السورية إلى لغة العنف والدم. وكانت هذه التحذيرات ترمي إلى تنبيه سكان المنطقة إلى الدمار الذي ينتظرهم في حال انهارت قواعد النظام الذي بناه حافظ الأسد منتصف الستينات. ومثل هذا القلق المتوقع لم يحدث بعد انهيار النظام العسكري الذي استمر في مصر منذ سنة 1952 مبتدئاً بجمال عبدالناصر... مروراً بأنور السادات... ومنتهياً بحسني مبارك. ومع أن زعماء «الإخوان المسلمين» والسلفيين وعدوا المشير طنطاوي بمشاركة أساسية في الحكم، إلا أن المنتصر غالباً ما ينسى وعوده. يقول المؤرخون إن الأسماك المتحجرة التي تخرج من صخور جبال لبنان، تنبئ عن وجود يابسة تحت البحر قبل آلاف السنين. وعندما انحسر البحر بقيت رواسبه المتمثلة بالأسماك المتحجرة والصدفيات. والشيء ذاته ينطبق على الوجود السوري في لبنان مدة ثلاثين سنة. ذلك أنه ترك بعد انكفائه آثاراً سياسية واقتصادية وتجارية واستخبارية يصعب محوها. ومن المؤكد أن هذه الآثار ستظهر للمكتشفين، كلما تضاءل نفوذ سورية في لبنان... أو كلما تضاءل نفوذ سورية في سورية! * كاتب وصحافي لبناني