دائماً يشكو الطلبة الجامعيون في بلادنا من التعليم العالي وظروفه، وأبرز المشاكل التي تواجهنا معهم تلك المتعلقة بعدم توافر مقاعد دراسية بالقدر الكافي في الاختصاص الذي يرغب كل طالب وطالبة في الانضمام إليه، فالجامعات الحكومية تشبعت من طاقاتها الاستيعابية، الأمر الذي يشير بأصابع الاتهام إلى من تسبب بحدوث كل تلك الأخطاء والمشاكل، التي كان أساسها في التخطيط الاستراتيجي للتعليم العالي، الذي لم يشهد عبر السنين الماضية، ومنذ تأسيسه، أيُ تقدم سريع وتطور ملحوظ يواكب متطلبات التعليم المعاصر وبتخصصاته كافة . عند تأسيس التعليم العالي في المملكة العربية السعودية فتحت أبواب الجامعات بدون ضوابط تذكر، بحيث تمكنها من ضمان فاعلية العمليات التعليمية، الأمر الذي أوصلها وبسرعة إلى ملء طاقاتها الاستيعابية، فكانت نتيجة ذلك الشكوى المتواصلة من طلبة وطالبات الجامعات السعودية من عدم توافر مقاعد في الاختصاصات التي يرغبون الالتحاق بها، وهي شكوى تبرز لنا - مع الأسف - في نهاية كل عام وبداية عام جديد، إذ يتم تحويل الطلاب إلى الاختصاصات التي تتوفر فيها أماكن شاغرة، وإن كانت ضد رغباتهم، وهو ما يجعل معظم طلبة العلم يعيشون مرحلة من الإحباط وتدني الدافعية لديهم والإقبال على التعليم العالي بسبب إحساسهم بانغلاق آفاق المستقبل أمامهم، كونهم لا يجدون ذواتهم التي يحققون من خلالها آمالهم في تخصصاتهم المرغوبة لديهم، بل يدفعون دفعاً قهرياً نحو تخصصات قد لا توفر لهم في المستقبل أيُ عمل يمكن أن يحقق لهم حياة مستقرة. وتتصاعد خيبات أمل طلابنا عند ظهور حاجتهم إلى ما يُعرف ب«الواسطة» للحصول على مقعد دراسي، وهذه «الواسطة» ما هي في حقيقة الأمر إلا نوع من أنواع الفساد الإداري المتفشي في مختلف مؤسسات الدولة «الحكومية وغير الحكومية»، أما بالنسبة لمن يحظى من الطلبة بمقاعد دراسية في تخصصات يرغبون في دراستها فإن حماسهم الكبير عند التحاقهم «بالسنة التحضيرية» التي تم التخطيط لها بعناية، وتوفرت فيها سبل التعليم اللغوي والتكنولوجي بشكل جيد، سيتحول تدريجياً إلى ظهور مشاعر المرارة والمعاناة مع التقدم إلى المرحلة الدراسية الأولى التي تلي السنة التحضيرية، خصوصاً عندما يكتشف الطلاب والطالبات ويصدمون بالهوة الواسعة بين ما كانوا يتلقونه من تعلم جيد خلال السنة التحضيرية وبين الواقع للتعليم العالي «التلقيني» في معظم تخصصاته، الذي لم يتغير ولم يخطط لإصلاحه أو تطويره سنة بعد أخرى من أجل الاستعداد لمواكبة ما درسه الطالب الجامعي خلال السنة التحضيرية، عندها فقط سيشعر الطالب بضغوط نفسية تنبع في أساسها من الشرط الذي وجد ذاته فيه، وقد يفقد الدافعية الجادة لدى الكثير من طلابنا للدراسة الجامعية في البلاد، التي هي في الأساس لم تجد فيها ذاتها، فتبدو الدراسة جهداً ضائعاً لا يوصل إلى شيء، فالشهادة الجامعية لم تعد هي الأخرى تطعم خبزاً، أو تكفل مكانة، أو توفر فرص حياة اجتماعية مستقرة للشباب، مقارنة بإغراءات أسواق المال والأعمال المتزايدة، التي بدأ وعي الشباب يتطلع لواقعها مع كل ما يدور من أحداث وظواهر عالمية. ما يزيد من تفاقم المشاكل غياب حياة الانطلاق والنماء المليئة بالإثارة والتحدي عن تجارب جامعاتنا السعودية الأمر الذي يحولها في نهاية المطاف أقرب ما تكون استمراراً للحياة في مرحلة التعليم العام الثانوي أو غيره، فما تقدمه الجامعات للطلبة لا يتخطى مساحات الدروس التي يتم تلقينها نظرياً في معظم الأحيان، وأعباء كثيرة من الاختبارات، أما الأنشطة فهي رمزية لا تصنع أي حياة مليئة بالتحدي، إنما هي شكلية كونها مقيدة بضوابط توجه سلفاً من السلطات الجامعية في الوقت نفسه الذي يتم فرض القيود على حرية التعبير والتفكير واختلاف الرأي مع الأساتذة، حتى في القضايا المعرفية، إضافة إلى القيود التي تفرض على السلوك بشكل عام لدى الشباب فتجعلهم منقادين في حالة من التبعية التي تقيدهم بلوائح الممنوعات التي تتكاثر في الجامعات نتيجة لظروف متعددة، أبرزها يتمثل في العامل الأيديولوجي الفكري، الذي ارتهن ولا يزال التعليم العالي في البلاد وفقاً لاتجاهاته الفكرية. ولذلك فليس من الغريب أن تتحول الجامعات في بلادنا إلى مجرد مكان لتلقي الدروس ثم يغادرها الطلاب بعد ذلك! وليس غريباً أن تكون نتيجة سوء التخطيط هو المحبط لجميع عمليات الإنفاق على التعليم العالي من دون أن نتلمس ثماره المرجوة في إعداد أجيال المستقبل القادرة والمتمكنة علمياً ومعرفياً وشخصياً! ولعلاج هذا الخطأ في التخطيط الاستراتيجي لا بد من إعادة التخطيط لبناء منظومة تعليمية وتدريبية وفنية بشكل متكامل بحيث يكمل بعضها بعضاً. وبعد هذا الاستعراض التحليلي النقدي سأتوقف - أعزائي القراء - عند رسالة مطولة وصلتني عبر البريد الالكتروني من الأخ «سطام العوض»، وهو أحد الطلبة الذين التحقوا بدبلوم اللغة الإنكليزية الذي قدمته جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالتعاون مع أكاديمية الفيصل العالمية في الرياض، ومعاناة الطلبة بدأت منذ عام 1427ه، وهي على ما يبدو مستمرة حتى الآن، إذ لم يتم تعويض الطلبة عن باقي مستحقاتهم المالية بعد أن تلقوا دبلوماًً غير معترف بشهادته، وكلف كل طالب ما قيمته 25 ألف ريال، رغم إعلان الجامعة للطلبة بأن هذا الدبلوم معترف به ويضمن لهم وظيفة بعد التخرج. السؤال الذي يطرح نفسه: من المتسبب في نشر مثل تلك الإعلانات الكاذبة، وبعلم المسؤولين الإداريين القائمين على شؤون الجامعة، بغرض جذب أكبر عدد ممكن من الشباب للالتحاق بهذا الدبلوم؟ وإذا كنت أسجل إعجابي بإصرار هؤلاء الشباب وحرصهم على الاستمرار للمطالبة بحقوقهم المادية والإنسانية، التي تعرضت للخداع ونصب الكمائن من بعض المسؤولين في جامعة الإمام، إلا أنني كنت أفضل ألا يسقط الشباب ضحية مثل هذه الخدع الكاذبة، وأن يطالبوا قبل التسجيل في الدبلوم من الجامعة إثبات ما أعلنت عنه بشكل مستند قانوني ونظامي لضمان حقوقهم، فالقانون والأنظمة فوق الجميع إلا أنها في الوقت نفسه لا تحمي المغفلين. ولم يبقَ أمامي إلا أن أتوجه للإخوة في جامعة الإمام، التي تُخرج القضاة والدعاة ورجال العلم والشريعة الإسلامية، وأسألهم من جديد: بعد كل ذلك... أين هي مصداقية الجامعة بالنسبة لهذا الموضوع؟ * أكاديمية متخصصة في التاريخ المعاصر. Drbasirah-1966@hotmail .com