لا يمكن إطلاقاً إغفال الترابط العضوي بين الأحداث المتعددة والمتسارعة الآن في العراق. فالعناوين الصارخة في تردي الأوضاع الأمنية وتصاعد العمليات المسلحة، إلى الحملة المنظمة للاعتقالات التي طاولت بقايا حزب البعث المحظور دستورياً ولا سيما في مناطق الوسط والجنوب ذات الغالبية الطائفية المعروفة، وصولاً إلى الإعلان «المباغت» لمجلس محافظة صلاح الدين باعتبارها «إقليماً» إدارياً واقتصادياً مستقلاً! ولا ريب في أن الخيط «الرفيع» الذي يربط بين هذه «الموضوعات» لن يكون منعزلاً عن مسألتين مترابطتين: الأولى، مستقبل العلاقات الأميركية – العراقية، في إطارها العام والمفصل، وليس فقط الانسحاب الأميركي «العسكري» من البلاد. والثانية، مستقبل العراق نفسه وتختصره بدقة مرهفة قضية مصير العلاقات «التاريخية» بين «مكوناته» التي اجترحها ظلماً بول بريمر في بداية الاحتلال عام 2003. ويبدو أن الإدارة الأميركية الحالية لا تريد التخلي عنها أبداً! وإذا كانت إدارة أوباما تراهن من خلال زمنها «الانتخابي» الجاري على جعل العراق «دقيقاً» في طاحونتها السياسية، فإن أعمدة الدراسة والتحليل المتحالفة مع «المؤسسة» الأميركية لا تقصر أبداً في ارتكاب المزيد من الأخطاء في تقصي الحقائق الدامغة على الأرض وبذل الحد الأدنى من الجهود للاستنتاج بخصوص سياسة صائبة في البلاد. والمثير هنا مكابرة بعض الرموز الديبلوماسية، كالسفير السابق كريستوفر هيل، والتي فشلت في سلوكياتها اليومية في تحقيق الاستقرار الأمني والوفاق السياسي في البلد وأحبطت الآمال عند المتعاونين بإمكانية تطور «العملية السياسية» في الاتجاه «الديموقراطي» للوصول إلى الاستقلال المطلوب وإنهاء كل التدخلات الإقليمية، ولا سيما غير العربية، في الشؤون العراقية. لكن هذه «الازدواجية» الأميركية في المقاربة مع الوضع العراقي ليست منقطعة عن النظرة «الأحادية» الفكرية البريطانية في تعريف حالة العراق التاريخية ومحاولة صوغ مفهوم «شبه ثابت» لجغرافيته السياسية. وما يزيد الطين بلة أن هيل في مقالته الأخيرة في موقع «سي إن إن» ما زال مصرّاً على عدم اعتبار العراق وحدة جغرافية تاريخية، وما انفك يردد الأقاويل البريطانية الفاشلة نفسها حول الطبيعة «الطائفية» لتاريخ البلد والصراع الضاري بين «المكونات» حول «السلطة السياسية» في القرون المنصرمة! ومن الجلي أن التضليل الذي يمارسه هيل في هذا المقال لا يمس الدفاع المشبوه عن «الوزير الأول» فقط، من خلال قناعاته الذاتية، وإنما ينسحب عملياً، وبلغة غير ديبلوماسية، إلى الكلام المتهافت حول العلاقة المتضادة المعروفة بين «السياسي» و «الطائفي» في المجتمعات التي تعاني من تأثيرات دينية مهمة. بل إنه يحول هذه الملاحظات البائسة إلى دليل عمل لتحقيق غاياته الديبلوماسية وحصانة خططه السياسية العقيمة والتي منعت عملياً التطور الصحي لنتائج الانتخابات في العام الماضي وشيّدت مستلزمات الاحتراب السياسي واحتمالات تطوره نحو الحرب الأهلية المسلحة! إن الفشل الغربي عموماً، والأميركي الخاص، وبالتلاقح مع مطامع دول الجوار غير العربية، في العثور على الطريق السليم للحفاظ على العراق المستقر الموحد، هو الذي يدفع قسماً مهماً من مراكز التحليل، وعلى غرار كلام هيل، في كيل الاتهامات المباشرة للعنصر «الشخصي» في الحياة السياسية «للنخب» المنخرطة والمتعاونة في «العملية السياسية» وعدم الاكتراث لبرامجها «السياسية» المحورية وتسليط الضوء فقط على ولاءاتها «الطائفية» والعجز التام عن توقع تطورها الحقيقي المقبل! و «الحصاد» السياسي المتوافر الآن ليس إلا نتاج «الزرع» الذي حصل في السنوات السابقة والذي توج بطريقة رخيصة وساذجة مفتعلة في العام السابق وحين جربت إدارة اوباما والسفير هيل كل الإمكانيات من أجل تثبيت «الكوندومينيوم» الإقليمي وإعادة انتخاب الوزير الأول وعلى الأسس البريمرية الفاجرة نفسها في بداية الاحتلال! فالأخطاء التي تقترفها «النخب»، ومنهم الوزير الأول، لا يمكن تفسيرها، كما يقول هيل بغلاظة، بالعناد الشخصي أو سوء قراءة المشهد السياسي أو التورمات النرجسية الفردية، بل إنها خلاصة شاذة وفذة للتهرب الحقيقي والمتقصد من المسؤولية التاريخية والسعي الفقير إلى ارتداء الأقنعة المزورة لتسويغ الإخفاق السياسي في مسارات انهيار «المسرح» الكامل للأحداث! * سياسي وكاتب عراقي