في مقالة طويلة مهمة، نُشرت في صحيفة «نيويورك تايمز» في الاسبوع الأول من هذا الشهر، كتب الضابط الاميركي هنري بروستر ملاحظاته القاسية حول الأداء الاميركي في العراق. وشرح بعمق أهمية النهوض «السياسي» من رماد النجاح «العسكري» الفظ والتعامل بروح مدنية حقيقية مع الناس في العراق وحماية حياتهم من كل القوى الشريرة الداخلية والخارجية. ومن الجلي أن هذا الضابط يسلّط الضوء على الفشل السياسي المتراكم والتجريبية العوراء التي يتبعها جهاز الاحتلال في البلاد وبطريقة أوصلت القوى الأساسية هناك إلى عنق الزجاجة. من هنا، فإن تصريحات رئيس الاركان الكردي بابكر زيباري لم تكن «ضغوطات» عرقية خاصة من أجل ليّ ذراع الحكومة الممتدة ولايتها، بل كان نتاج خطة برنامجية وضعتها وزارة الدفاع العراقية وبإشراف الوزير الأول. وكعادته فقد رد هذا الوزير على زيباري بطريقة «عفلقية» مضجرة بأن العراق قد لا يحتاج الى المزيد من الأسلحة وأن الإخلاص والإيمان يعوضان نقص الطائرات والدبابات! جاءت هذه الازدواجية في الأقاويل حول الوضع الأمني مترافقة مع النتائج المزرية التي وصل إليها قادة الكتل الرئيسة وخيبتهم العلنية في التوصل إلى الحد الأدنى من عدم الاتفاق. إن الأساس النظري الذي ابتكره جون غراي في إطار «مودس فيفندي» المطلوبة في تجارب منها مشكلة العراق هي التي مهدت إلى التعبير السائد الآن في اللوحة اليومية «اتفقوا على ألا يتفقوا»! ويمكن القول ببداهة إن الازدواجية في السلوك والكلام السياسي لا تنفصل عن «توأمها» على الصعيد الأمني، القوت اليومي للصراع القائم بين «مكونات» بريمر النموذجية. وتعلق مارينا اوتاواي بجدارة قائلة في عبارة جامعة: ما لم يحدث تحول في النموذج المعرفي السائد في العالم العربي وهو الاستئثار بالسلطة المطلقة وينشأ نموذج معرفي جديد يعتمد على توزيع السلطة، فلن يحدث إصلاح سياسي في الوطن العربي والعراق أبداً. وقد تناست اوتاواي أيضاً أن الادارة الراهنة منسجمة مع هذه الازدواجية بل وتشجعها أحياناً خدمة لأغراضها التكتيكية. ولا بد من التنويه بجملة من الحوادث والأحاديث التي توضح هذه المتاهة السياسية ومحاولة اصطياد الوحش القابع في حلزونها الطائفي العرقي المهيمن على «العملية السياسية» في البلد. إن رهط الوزير الأول يتحدثون بنسختين «الأولى يحذرون فيها السُنّة من طائفية رئيس الوزراء المقبل إن كان شيعياً «من الائتلاف الوطني» لأنه سيقود العراق الى حرب طائفية. وقد ورد ذلك في شكل من الأشكال في حديث للوزير الأول نفسه. أما النسخة الثانية، فتحذر الشيعة من انتخاب العراقية، لأنها تمثل السُنّة، وفي القائمة بعثيون سابقون كثيرون. إذاً، هي الحرب الطائفية. وهذا يعني أن العراق لن تقوم له قائمة إلا باستمرار «الأفضل» في السلطة. وهذا يعني أنه إذا سقط «الأفضل» سقط العراق! وهذه «قناعتنا» كما غرد كبيرهم الذي علمهم السحر والقيادة. ونعثر على صدى آسر من النمط نفسه من التخريجات والتحذيرات من معسكري «العراقية» و «الائتلاف الحكيمي» وتقودنا حتماً إلى النتائج المضحكة نفسها حول مفاهيم هؤلاء حول العلاقة المعقدة بين «الطوائفي» و «الوطني» في ظل ديموقراطية «الكوندومينيوم» العالمي والاقليمي. فالأنباء التي بدأت تفسر بعض الترددات السياسية لهذا الكوندومينيوم أخذت تشرحها أوساط مطلعة من داخل هذه الكتل السياسية وجوهرها «ارتكاسة» الطرفين الاميركي والايراني نحو تبني الوزير الأول بكونه «الأفضل» لقيادة القارب العراقي. وتحاول هذه الجهات بسذاجة منقطعة النظير التلويح بأسباب واهية، معظمها تحت شعار الحفاظ على الاستقرار السياسي والأمني، تجبرها على التشبث بهذا الاقتراح وتسويقه داخلياً وإقليمياً. لكن هذه الجهود نفسها تصطدم بالأولويات التي تنطلق منها كل القوى والتي كانت هي القاعدة الغبية والمغلقة التي بنيت عليها العملية السياسية والديموقراطية الاحتلالية. ولا مناص من تلخيص هذه «الابداعات» الفكرية التي يغنيها الجميع في بازار تشكيل الحكومة. فالولايات المتحدة تريد حكومة «شيعية – علمانية طائفية» تعزل فيها «أتباع» ايران وتجعل من الوضع العام للعراق مؤهلاً للانخراط في المعارك المتعددة مع ايران في المستقبل القريب أو البعيد. وإيران تريد حكماً «شيعياً» صافياً يكون فيه «للإخوان السنّة» تعاون وليس شراكة أبداً، فالعراق أرض المظلومية ولا مكان فيه لأعداء آل البيت. ويجد كل من طرفي الكوندومينيوم أن هذه فرصته الآن في تعبيد الطريق أمام معركة ارماجادون النفطية الآتية. ولا يمكن أن نغض النظر عن الازدواجية المتوطنة في أحاديث الطرفين حول السياسة والأمن في العراق أو المنطقة ودور هذه الازدواجية في تأجيج الخصومة من جهة وفي فضح أحابيل الصراع الظالم على الشعب العراقي المقهور من الجهة الثانية. ولا ريب في أن الوزير الأول مساهم بصلافة في هذه الازدواجية حين اعتبر، في إحدى معلقاته، تحرك الجانب الأميركي انطلاقاً من مسؤوليته في ضمان مستقبل الديموقراطية في العراق! وجاءت هذه الكلمات في الوقت نفسه الذي استقبل فيه السفير الايراني الجديد، ذو الأصول العراقية، مناشداً اياه «ضرورة تمتين العلاقة بين البلدين والحاجة إلى التواصل، لا سيما في المجال الاقتصادي والاستثماري، وأن نستمر باللقاءات معكم في الكثير من الأمور المشتركة، ولكن يبقى التعاون الأمني والسياسي الأكثر بين القضايا»! وفي الفترة ذاتها، أطلق الرئيس اوباما نداء خاصاً طالب فيه ايران بإطلاق سراح الشبان الثلاثة الذين اعتقلتهم في الأراضي الايرانية - العراقية «المشتركة»! في شمال العراق في نهاية تموز (يوليو) من العام السابق. والملاحظ أنه لم يكتب عن أحد هؤلاء الشبان وهو الصحافي شاين باور الذي سبق أن كشف بالتفاصيل عن العلاقات السياسية – الأمنية الغامضة والملتبسة بين الاحتلال الاميركي والنفوذ الايراني في العراق و «العقدة» المركزية بينهما ممثلة بحكومة «الأفضل» وقواته الأمنية الخاصة «ايسوف» ودورها في التفجيرات الدامية الشهيرة في نهاية عام 2009 المنصرم. وقد كتب شاين باور بالتفصيل عن العلاقة بين الاتفاقية الأمنية «سوفا» الطويلة الأمد، والتي تتبجح الحكومة بإنجازها! وبالموافقة الايرانية عليها حيث ان ايران كانت موجودة في غرف المباحثات بحسب تصريحات هوشيار زيباري في حينه وبعد أن أبعد من فريق وفد المباحثات مع اميركا، وبين القوات الخاصة «ايسوف» التابعة مباشرة لمكتب «الأفضل» وكيف أنها هي البناء المركب الجديد لدولة «الوكالة» العراقية وقواتها «الخاصة» جداً. وكانت كلمات شين باور في النشرة الخاصة «نيو اميركا ميديا» هي تلخيص ميداني للتقرير الخاص للكونغرس الذي نشر في أيار (مايو) 2009 والذي يصدر دورياً وفيه توجيهات مركزية محددة للإدارة الاميركية الحاكمة. فهل يستطيع «الأفضل» والنخب الخائبة الأخرى المصطرعة على النفوذ السياسي والثروة النفطية تغطية «قريتهم» المنهارة ب «ملاية» تصريحاتهم المتناقضة وسلوكهم الحربائي المتكرر والسعي الجاد تحت المظلة العالمية – الاقليمية من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه أم أن الطريق إلى عبور نهر «العملية السياسية» الفاشلة أصبح مغلقاً ولا فائدة ترجى من محاولة اقتحامه؟ إن «الوثيقة» الكردية التي قدمت أخيراً إلى الكتل الأساسية على رغم كل تعارضاتها البنيوية قد تشكل محاولة بائسة ويائسة أخيرة في هذه المباحثات البازارية الفاسدة والوصول إلى حالة «مودس فيفندي» في الاتفاق على عدم الاتفاق! * سياسي وكاتب عراقي