خلال سبعة أشهر من عمر الأزمة السورية (منذ 18 آذار/ مارس 2011 مع أحداث درعا، وما تلاها من حراك في مدن وبلدات سورية) حصلت محطات ظهر فيها مقدار الاستقطاب السياسي بين مختلف القوى السياسية الموالية (حزب البعث والقوى الحليفة له في «الجبهة الوطنية التقدمية») والمعارضة، وتلك التي في موقع وسط بينهما. كانت مبادرة الجامعة العربية، التي سرِب مضمون نصها إلى وسائل الإعلام في 6 أيلول (سبتمبر) قبيل ثلاثة أيام من زيارة الأمين العام للجامعة العربية دمشق، محوراً لأحد هذه الاستقطابات السورية الكبرى في الأشهر الماضية. لم يظهر هذا الاستقطاب ويتبلور إلا مع تفعيل هذه المبادرة من خلال اجتماع مجلس وزراء الخارجية العرب في القاهرة (16 تشرين الأول/ أكتوبر) الذي قرر إرسال لجنة وزارية، برئاسة وزير الخارجية القطري، زارت العاصمة السورية الأربعاء 26 تشرين الأول. إذا تركنا موقف الموالاة، نجد الاستقطاب محصوراً في موقعين: المعارضة من خلال قطبيها، أي (هيئة التنسيق الوطنية: 15 حزباً معارضاً من اليسارات القومية العربية والماركسية والكردية مع شخصيات مستقلة) و(المجلس الوطني السوري- إسطنبول: «جماعة الإخوان المسلمين» و «إعلان دمشق: حزب الشعب وأربعة أحزاب كردية تتوزع ولاءاتها بين برزاني وطالباني»، إضافة إلى حزبين كرديين متطرفين: يكيتي وآزادي). الموقع الثاني هو موقع الوسط، بين الموالاة والمعارضة، الذي تمثله (الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير) وهي مؤلفة أساساً من «اللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين» بزعامة الدكتور قدري جميل الذي أتى من أحد أحزاب «الجبهة» في عام 2001 ولم يقل عن نفسه أنه «معارض» سوى منذ صيف 2011، ومن «الحزب السوري القومي الاجتماعي: الانتفاضة» بقيادة الدكتور علي الشيخ حيدر وهو مختلف لأسباب أيديولوجية - تاريخية مع الشق الآخر من القوميين السوريين الموجود في (الجبهة) الموالية للنظام. كيانات ثلاثة بين صيف وخريف 2011 تبلورت هذه الكيانات السياسية الثلاثة: كانت (مبادرة الجامعة) أول محور استقطابي عملي بانت من خلاله هذه المواقع الثلاثة، وهو ما كان يظهر بينها سابقاً عبر مكونات هذه المواقع الثلاثة قبل تشكلها (الهيئة: 25 حزيران/ يونيو، الجبهة: 9 تموز/ يوليو، المجلس: 2 تشرين الأول)، حيث كان ظاهراً الخلاف بين هذه المكونات في موضوع (الحوار مع السلطة) في حزيران، حين قبلت مكونات الموقع الأول الحوار شرط تهيئة المناخ والبيئة المناسبين له، فيما قبل قدري وحيدر المشاركة في الحوار، بينما رفضه «الإخوان» و «إعلان دمشق» من حيث المبدأ. كان موضوع (الحوار) بداية الاستقطاب، الذي أخذ مسرى لاحقاً وضح من خلاله أن هذا الموضوع مجرد حامل للموضوع الثاني وهو (الموقف من السلطة): عند (الهيئة: تغيير لبنى السلطة القائمة عبر مرحلة انتقالية تبدأ ب «إسقاط النظام الاستبدادي الأمني» للوصول مع الجهاز السياسي للنظام من خلال هذه المرحلة الانتقالية «إلى حل سياسي لا يمكن أن يتحقق ما لم يتوقف الحل الأمني- العسكري ليفتح الطريق إلى مرحلة انتقالية تجري مصالحة تاريخية وتوفر الظروف والشروط الملائمة لبناء الدولة المدنية الديموقراطية»- البيان الختامي لمؤتمر «الهيئة» في 17 أيلول). عند (المجلس: «إسقاط النظام القائم بكل أركانه، بما فيه رأس النظام»). في الجهة الوسطية عند (الجبهة الشعبية) نجد في بيان إعلانها أن كل المواضيع، بما فيها مواضيع السلطة والحراك والأزمة السورية، ينظر لها من خلال منظار موضوع واحد يعتبر هو الرقم واحد في الأهداف «الملحة والمستعجلة:1- رفض كل أشكال التدخل الخارجي في الشأن السوري، وإدانة كل من يحاول الاستقواء بالخارج، وتفعيل كل وسائل الرد الشعبي والرسمي». هذا يقود (الجبهة) إلى القول ب «الإصلاح» أمام خط «الانتقال عبر التغيير الوطني الديموقراطي» كما تقول (الهيئة)، وأمام خط «إسقاط النظام» الذي يقول به (المجلس). هنا، افترقت هذه الخطوط الثلاثة، المتفارقة بين هذه السكك الثلاث، في الموقف من (العامل الخارجي): («الجبهة الشعبية»: اعتباره موضوع المواضيع، «الهيئة»: اعتبار أن التغيير الوطني الديموقراطي هو الطريق لتحصين البلد أمام الخارج وشرطاً مسبقاً لتحقيق هذا التحصين وأن الاستبداد والقمع هما السكة التي تعبر عليها المخططات الخارجية المستهدفة للبلد نتيجة حسابات تخص الدول الأجنبية التي هي ليست جمعيات خيرية أو لحقوق الإنسان، «المجلس»: ما قاله الدكتور برهان غليون عن تسويغ طلب الحماية الدولية بأن «قوانين حقوق الإنسان فوق سيادات الدول» وما أعلنه رئيس الأمانة العامة ل «إعلان دمشق» سمير نشار من تساؤل استلهامي سوري للتجربة الليبية مساء يوم ولادة مجلس إسطنبول: «ماذا كان سيحل بمدينة بنغازي لو لم يتحرك الحلف الأطلسي؟»). من دون هذا، بكل تفاصيله السابقة، لا يمكن فهم مواقف هذه القوى السياسية السورية من (المبادرة العربية)، الذي يتضمن نصها (منشور في «الحياة»، 6 أيلول) «الانتقال إلى نظام حكم تعددي» بعد «دعوة الحكومة السورية إلى الوقف الفوري لكل أعمال العنف ضد المدنيين وسحب كل المظاهر العسكرية من المدن السورية... وتعويض المتضررين، وإطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين... وبدء فصل الجيش عن الحياة السياسية والمدنية» من أجل تهيئة المناخ ل «بدء الاتصالات السياسية الجدية ما بين الرئيس وممثلي قوى المعارضة السورية على قاعدة الندية والتكافؤ... وإشراك ممثلي التنسيقيات الميدانية البازغة على الأرض في الحوار... وذلك على أساس رؤية برنامجية واضحة للتحول من النظام القديم إلى نظام ديموقراطي تعددي بديل... ويكون الحوار على أساس المصالحة الوطنية العليا السورية بالانتقال الآمن إلى مرحلة جديدة وفق ثوابت الوحدة الوطنية: لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل الأجنبي». الاجراءات العملية عندما أصبحت (المبادرة العربية) في المسرى العملي، منذ اجتماع 16 تشرين الأول في القاهرة، بدأت تتوضح الاستقطابات السورية حولها، خصوصاً مع إرفاقها بالدعوة إلى «إجراء الاتصالات اللازمة مع الحكومة السورية وأطراف المعارضة بكل أطيافها للبدء في عقد مؤتمر لحوار وطني شامل في مقر الجامعة العربية وتحت رعايتها خلال 15 يوماً اعتباراً من صدور هذا القرار»: في اليوم التالي، الاثنين 17 تشرين الأول، أصدرت (هيئة التنسيق الوطنية) بياناً رحبت فيه ب «مسعى الجامعة العربية ورعايتها محاولة إيجاد مخارج للأزمة السورية» وهو ما أرفق بعد يومين برسالة إلى الأمين العام للجامعة العربية أكدت فيها (الهيئة) على ما سبق مع إبداء الاستعداد ل «التشاور مع اللجنة الوزارية العربية وأمانة الجامعة العربية حول تفاصيل المبادرة»، الأمر الذي تم تكراره في رسالة في 23 تشرين الأول من (هيئة التنسيق) إلى رئيس وأعضاء اللجنة الوزارية العربية مع التأكيد على الخشية «من مضاعفات أي تدخل عسكري أجنبي في سورية على المنطقة»، ولكن من دون إبداء أي موقف حول (نص مبادرة 6 أيلول) وكذلك حول الموقف من (مكان مؤتمر الحوار). بدوره فإن (المجلس الوطني السوري) عبّر (في بيان في 25 تشرين الأول) عن «قلقه وقلق الشعب من أن تساوي هذه المبادرة بين الضحية والجلاد، وتعطي مهلة أخرى للنظام كي يسفك مزيداً من الدماء». من جهتها عبرت (الجبهة الشعبية)، في بيان بيوم 18 تشرين الأول، عن «رفض مطلق» ل «أية محاولات أجنبية لتعريب ثم تدويل الأزمة في سورية... وأن دمشق- عاصمة الوطن - هي المكان الوحيد الحاضن للحوار الوطني». في المجمل، كان موضوع المبادرة العربية من أكثر المواضيع استقطاباً للمواقف على مدى سبعة أشهر من عمر الأزمة السورية، ومن أشدها تكثيفاً للمواضيع الأخرى في موضوعه، وقد عبر عن وصول الاستقطاب إلى ذروة من حيث تشكل، ليس فقط مواقع معارضة وموالاة وموقع وسط بينهما في شكل شامل لرزمة كاملة من المواقف والمواضيع، وإنما أيضاً حالة فرز استقطابية ظهر فيها بوضوح للمرة الأولى، خلال أشهر طويلة، كم هو التفارق بين معارضة «هيئة التنسيق الوطنية» ومعارضة «المجلس الوطني السوري- إسطنبول» في موضوع (المبادرة العربية)، الذي عكس، عبر ذاته، الهوة القائمة بينهما في مواضيع (الموقف من السلطة: تغيير انتقالي أم إسقاط؟) و(الموقف من العامل الخارجي)، حيث تطرح (المبادرة العربية) مساراً يكون فيه (التعريب) مجسداً لعملية انتقال تشاركي تقترحه المبادرة بين السلطة والمعارضة للوصول إلى نظام حكم تعددي وشكلاً من العملية السياسية يقرره ويتفق عليه السوريون، بمساعدة العرب، من دون الاستعانة ب(العامل الخارجي) لإحداث تغييرات داخلية بعكس ما جرى في المثال الليبي الذي كان فيه عجز العامل الذاتي للمعارضة عن القدرة على إسقاط النظام مترافقاً وفي حالة توأمة مع استدعاء الخارج الدولي لتحقيق ذلك. * كاتب سوري