لحن خلال حياته ما يقارب الأربعين أوبرا... ثم توقف عن كتابة هذا النوع من الموسيقى قرابة أربعين عاماً... خلال تلك الأعوام كتب الكثير من السوناتات والأغنيات، وبخاصة الموسيقى الدينية، لكنه لم يدنُ من فن الأوبرا أبداً، حتى رحيله. لم يفهم أحد سر ذلك العزوف في حينه... وحتى اليوم لا يفهم هذا السر أحد. بل ان الأوبرا الأخيرة التي لحنها، عام 1829، وهي «ويليام تل» بقيت شهيرة بفضل مقدمتها الموسيقية الطويلة جداً، أكثر مما بمتنها. وكأن تلك المقدمة – الافتتاحية مهدت الطريق للمؤلف، كي ينسى التلحين المسرحي، ليغوص في التلحين الأركسترالي. ويساهم، عادة، في هذا الاحتمال أن الأوبرا نفسها كانت باهظة الكلفة المادية، لمن يريد انتاجها إذ انها تقدم خلال ما لا يقل عن أربع ساعات، كما كانت باهظة الكلفة السياسية، بسبب موضوعها الوطني التحريري، المعادي للنمسويين. مع أن أكبر عدد من التقديمات لها كان في فيينا عاصمة النمسا... بينما منعتها الرقابات كثيراً في ايطاليا، التي كانت – على أي حال – غير معنية بها، إلا لناحية أن ملحنها إيطالي، وانها تقدم عادة في الإيطالية كما تقدم في الفرنسية. والموسيقي الذي نتحدث عنه هنا، كملحن «ويليام تل» هو طبعاً جواكينو روسيني، الذي كان بين 1810 (من «اتفاقية زواج») حتى 1829 («ويليام تل»)، لحن، بالتحديد 39 أوبرا، يعتبر بعضها علامات أساسية في تاريخ هذا الفن، واجماليها تمهيداً لمجيء جوزيبي فردي واعادة إحيائه فن الأوبرا خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لحن روسيني إذاً، 39 أوبرا، من بينها «سلّم من حرير» و «حلاق اشبيليا» و «عطيل»، ومع هذا تبقى افتتاحية «ويليام تل» الأشهر بين أعماله، والأكثر حضوراً، حيث نراها حيناً، مذكورة في سيمفونية لديمتري شوستا كوفتش، وتارة مستخدمة في فيلم «البرتقال الآلي»، وأحياناً في مقدمات برامج اذاعية أو تلفزيونية. وهذه الافتتاحية تقدم، بشكل عام منفردة وكأنها عمل سيمفوني، علماً أنها هي نفسها تقسم الى أربع حركات، لكل واحدة منها مناخها وايقاعها، لتصل في ختام الحركة الرابعة التي تستبق الأحداث، الى كريشندو صاخب كان نادراً من نوعه في ذلك الحين. أما الموضوع الأساس لهذه الأوبرا، فهو نضال السويسريين، في القرن الرابع عشر المتحرر من ربقة الاستعمار النمسوي لبلادهم، من ناحية، والدعوة من ناحية ثانية، الى توحيد الكانتونات السويسرية المختلفة بغية الحصول على ذلك الاستقلال. وهذا كله، كما ينبغي للأمور أن تكون في أوبرا ضخمة وشعبية من هذا النوع، على خلفية حكاية حب من النمط «الروميو جولييتي». [email protected] في مشهد افتتاحي يسبق بدء الفصول الأربعة التي تتألف منها هذه الأوبرا المقتبسة عن مسرحية بالاسم نفسه للشاعر شيلر، لدينا ارنولد ابن الزعيم السويسري ميلكاتل، وقد انقذ من الغرق أميرة نمسوية هي ماتيلد. وكما يحب أن يحدث، يقع الفتى والفتاة في غرام بعضهما البعض على رغم كراهية السويسريين للنمسويين لكون هؤلاء يستعمرون الأراضي السويسرية ويحملونها بالعنف والقسوة. بعد هذا التمهيد، إذاً، يبدأ الفصل الأول، الذي تدور أحداثه خلال عيد الرعاة، في شهر أيار (مايو) الذي يقام في مكان فسح بالقرب من بحيرة لوريسرن. وانطلاقاً من تقاليد هذا العيد الشعبي – القومي في سويسرا، كان يفترض بالعاشقين ارنولد وماتيلد، أن يتلقيا بركة الزعيم ميلكاتل. لكن أرنولد يرفض ذلك، طالما ان فؤاده كان لا يزال ممزقاً بين وطنه وحبه. وهنا عند تلك اللحظة يعلو صوت الموسيقى معلناً وصول غيسلر، الحاكم النمسوي الذي لا يكنّ له السويسريون أي ود على الإطلاق. وفي الوقت نفسه يدخل ليتولد المطارد من قبل الجنود النمسويين، بعد ان قتل واحداً من جنود غيسلر كان حاول الاعتداء على ابنته. وما ان يصل ليتولد حتى يبدأ البحث عن طريق للهرب، لكنه يفاجأ بأن ليس أمامه من طريق سوى عبور البحيرة. وهنا يتدخل ويليام تل عارضاً عليه المساعدة. وإذ يصل جنود غيسلر بقيادة رودولف، يكون ليتولد، قد تمكن من الهرب مستنداً الى عون ويليام تل له. وكرد على هذا يأخذ الجنود النمسويون الزعيم ميلكاتل رهينة. وتدور أحداث الفصل الثاني في واد يطل على البحيرة، حيث يحدث لقاء جديد بين ارنولد وماتيلد يروح كل منهما خلاله باثاً لواعج فؤاده لرفيقه. غير ان تل يصل برفقة والتر ليخبرا ارنولد أن غيسلر قد أصدر أوامره بإعدام ميلكاتل فيجن جنون الفتى، ويقسم هو وويليام تل ووالتر على الانتقام كما على تحرير سويسرا وتوحيدها رداً على ذلك الظلم النمسوي. ما يفتح على الفصل الثالث والذي تدور أحداثه هذه المرة في السوق الشعبية لبلدة آلتدورف، حيث يجري الاحتفال بالذكرى المئوية البائسة لاحتلال النمسا سويسرا. وها هو غيسلر، كجزء أساسي من الاحتفال يعلق قبعته في مكان عال، كي يمر بها السويسريون ويؤدون واجب التبجيل والاحترام. وإذ يصل ويليام تل، في رفقة ابنه جيمي، ويشاهد ما فعله غيسلر، وكيف ان البعض يبادر الى تنفيذ الأوامر، بالفعل، يرفض هو ابداء أي احترام... وهنا يتعرف غيسلر على ويليام تل ويتذكر أن هذا الأخير هو الذي انقذ ليتولد وهرّبه من مطاردة الجنود له، فقرر ان الوقت حان لمعاقبته... وان بطريقة مبتكرة: إذ يأمره بأن يصوب سهمه الى تفاحة وضعت فوق رأس جيمي، ولكن – أي كل غيسلر – أمل في أن يخطئ تل مرمى سهمه ويقتل ابنه فيكون الانتقام منه مزدوجاً وأكثر. وإذ يطلق ويليام تل سهمه يتمكن من إصابة التفاحة، من دون إلحاق أي أذى بابنه. وإذ يحقق كل هذا النجاح أمام أنظار عدد كبير من المشاهدين يقف ليقول لغيسلر، انه لو أخفق في رميته وأصاب ابنه، كان من شأنه أو يوجه سهماً ثانياً كان معه الى غيسلر نفسه ليرديه انتقاماً. وهنا يغضب غيسلر ويصرخ طالباً من رجال حرسه أن يعتقلوا ويليام تل. وانطلاقاً من هذا الصراخ ينتهي الفصل الثالث ليحل الفصل الرابع والأخير، والذي عند بدايته يكون وصول مجموعة كبيرة من الثوار السويسريين الى المكان، لتندلع معركة دموية هائلة بين الطرفين، يتمكن ويليام تل خلالها من قتل غيسلر، وكما وعده: بسهم يصيب قلب الحاكم... وتتمكن سويسرا بالتالي من الحصول على استقلالها، أما ارنولد وماتيلد، اللذان لا يزال حبهما يوحدهما، فإن حصول سويسرا على استقلالها، يحررهما معاً، من ربقة العداوة السياسية، لتنتهي الأوبرا على رسم مستقبل زاهر لحبهما... في السياق الموسيقي لهذه الأوبرا، التي تدوم - كما أشرنا – أكثر من أربع ساعات، ليس هناك ما هو مفاجئ أو جديد، عدا استخدام روسيني الألحان الشعبية السويسرية الريفية، وأغنيات الحانات والنزل كما كانت حاضرة في عصر النهضة، في بعض المواقع والأغنيات. الجديد كان إذاً، في الافتتاحية التي يبدو سياقها وكأنه تمهيد للتدرج الحدثي، كما هو في متن العمل ككل، حيث، بعد أن تبدأ الافتتاحية بتمهيد بطيء يركز عليه باستخدام آلات خفيضة الصوت مثل التشيلو والباص، تأتي حركة ثانية عاصفة، تلعبها الأوركسترا كلها، ليتلي ذلك احتفال بالأعياد الريفية يركز خصوصاً على استخدام البوق الإنكليزي. أما الحركة الرابعة والأخيرة في الافتتاحية فحركة ديناميكية تبدأ بمسيرة الخيالة، تعلنها آلات الترومبين، ثم الأوركسترا بأكملها حتى الكريشندو الأخير الذي يفتح على الفصل الأول. عندما لحن جواكينو روسيني (1792 – 1868) أوبرا ويليام تل، كان بالكاد تجاوز السابعة والثلاثين من عمره، وكان كتب عدداً كبيراً جداً من الأعمال الكبرى وصار واحداً من أشهر ملحني الأوبرا في أوروبا. ومن هنا ظل الاستغراب يحيط بمسألة توقفه عن كتابة الموسيقى لهذا النوع الفني، بل انسحابه شبه الكامل من الحياة الفنية، مع انه ظل يؤلف بين الحين والآخر أغنيات وألحان أوركسترالية. أما ذروة نجاحه، فكانت طبعاً مع «حلاق اشبيليا» التي ستكون أول أوبرا تقدم في الولاياتالمتحدة كما قدمت في سائر أنحاء العالم. ولقد أقام روسيني في باريس بدءاً من عام 1855، حيث صار بيته ملتقى للفنانين، من دون أن يقوم هو، بأية جهود ابداعية حقيقية... حتى موته.