عندما أُجري استفتاء المصادقة على الدستور العراقي في 15 تشرين الأول (أكتوبر) 2005، اعترض عليه أكثر من ثلثي الناخبين في محافظتي صلاح الدين والأنبار، وكاد الناخبون في محافظة ثالثة، هي الموصل، أن يسقطوه كلياً وفق مادة في قانون إدارة الدولة الذي نُظِّم وفقه الاستفتاء، تقضي بأن الدستور يعتبر مُصادَقاً عليه إن لم يعارضه ثلثا الناخبين في ثلاث محافظات أو أكثر، لكن معارضة الموصل لم ترتقِ إلى الثلثين بفارق بسيط لذلك اعتبر الدستور مصادقاً عليه. وأحد أهم أسباب اعتراض الناخبين في المحافظات الثلاث هو أن الدستور ينص على مبدأ الفيديرالية الذي كان السياسيون العراقيون من الأحزاب الكردية والشيعية متمسكين به ويعتبرونه حجر الزاوية للنظام الجديد والدرع الواقي من الديكتاتورية والضامن الأساس لوحدة العراق، وكانوا يرددون عبارة «الفيديرالية تعني الاتحاد وليس الفرقة». إلا أن الأوضاع تغيرت الآن، إذ أصبحت الفيديرالية الملاذ الوحيد للمحافظات الثلاث التي رفضتها سابقاً والسبب هو شعور مواطنيها بالتمييز والتهميش من جانب الحكومة المركزية في بغداد ,التي تهيمن عليها الأحزاب الدينية الشيعية التي أصبح معظمها يعارض الفيديرالية ويعتبرها تمزيقاً للوطن وتفتيتاً للوحدة الوطنية، خصوصاً إذا أقيمت «على أسس طائفية» وفق قول رئيس الوزراء نوري المالكي معلقاً على إعلان محافظة صلاح الدين رغبتها في تشكيل إقليم. والتبرير الذي دفع المالكي إلى هذا الاستنتاج هو أن المحافظات التي تطالب اليوم بإنشاء أقاليم هي ذات غالبية مذهبية معينة، وهذا يجعلها، في رأيه «طائفية» وأن الإعلان جاء بعد سلسلة من الاعتقالات المفاجئة التي طاولت بعثيين سابقين اتهموا بالتخطيط لقلب نظام الحكم، ما سيجعل الإقليم الجديد «ملاذاً للبعثيين» الهاربين من سلطة الدولة! لكن محافظات أخرى، بينها البصرة مثلاً، تسعى منذ سنوات إلى نيل الفيديرالية ولم يتهمها أحد بالطائفية على رغم كونها لا تختلف عن صلاح الدين من حيث كونها ذات طابع مذهبي معين! وهنا تكمن المفارقة التي يعتبرها كثيرون ازدواجية في التعامل. فالمحافظات ذات الغالبية السُنية تتهم بالطائفية وحماية البعثيين عندما تحاول الاستفادة من نص دستوري فُرِض عليها فرضاً، مع أن معظم البعثيين المعتقلين أخيراً هم من محافظات شيعية تسعى أيضاً إلى الهدف ذاته، في وقت تتمتع المحافظات الكردية بالفيديرالية وتعيش في منأى من تدخل الحكومة المركزية منذ عشرين سنة. مواقف الأحزاب من الفيديرالية كانت تنطلق من عُقَد الماضي، فالأحزاب الشيعية والكردية كانت تفكر بعقلية الاقلية المضطهدة، وكانت تبني على سجل الدولة العراقية السابقة في اضطهاد مواطنيها تحت مسميات شتى، دينية وقومية ومناطقية. وكانت تسعى لأن تضمن عدم تكرار الاضطهاد، فأصرت على إدراج حق الفيديرالية للمحافظات، بينما كان القادة السنّة ينطلقون من فكرة الدولة الواحدة التي تأسست عام 1921 وكانوا يعتبرونها ضمانة لجميع المواطنين وينظرون إلى الفيديرالية على أنها تمهد لتفتيت وحدة العراق. محافظة صلاح الدين أعلنت أخيراً نيتها إقامة إقليم منفرد ضمن حدودها الحالية، ومحافظات أخرى ستتبعها في هذا التوجه، عاجلاً أو آجلاً، لأن مغريات الإقليم كثيرة، من حصولها على حصة أكبر من موازنة الدولة، تكافئ نسبتها من السكان، إلى حصولها على حق تشريع قوانين تمنع تدخل الحكومة المركزية في شؤونها، باعتبار أن قوانين الإقليم تعلو على القوانين الاتحادية وفق الدستور. محافظة الموصل (نينوى) على سبيل المثال، كانت ستحصل على 11 بليون دولار من موازنة الدولة لو كانت إقليماً، بينما ستحصل على بليون ونصف بليون فقط كمحافظة. وتسود حالياً حالة من انعدام الثقة بين المركز وبعض المحافظات، لذلك لن تفلح ممانعة حكومة المالكي في ثني المحافظات المصممة على تشكيل الأقاليم لأنها ستعتبِر اعتراض الحكومة تمييزاً طائفياً ومناطقياً، وهذا يزيد إصرارها على المضي في طريق الفيديرالية. الدستور الحالي فيه غموض وعلل كثيرة، لكن الجلي فيه هو أنه يسمح بتحول المحافظات المنفردة إلى أقاليم ولن تتخلى أي محافظة في المستقبل عن هذا الحق ولو وافقت الأحزاب والطوائف والقوميات المتحاصصة على تعديل الدستور وفق نص المادة 142، وهذا أقرب إلى المستحيل في ظل الظروف الحالية. إن أرادت الحكومة المركزية أن تمنع تفكك العراق وتخفف حالة التذمر، فمفتاح ذلك ليس من الطلاسم، وهو يبدأ بالتوقف عن استخدام ذريعة «خطر البعث» لمحاربة الخصوم أو إثارة الهلع في البلاد والتوقف عن محاربة المواطنين في أرزاقهم لمجرد أنهم كانوا ينتمون إلى حزب جبر الناس على الانتماء إليه بطرق شتى، والبدء بخطوات جدية لرفع الظلم الذي تعرض له عراقيون كثيرون بسبب انتماءاتهم السياسية السابقة، والسعي إلى توزيع عادل للثروة يخلو من التمييز، واتباع إجراءات منصفة ومهنية في التعيين في دوائر الدولة بدلاً من الإجراءات الحالية التي تفضل الأتباع والأقارب. حزب «البعث» لم يعد يشكل خطراً على النظام الجديد، وكان انتهى فعلياً لولا محاولات إحيائه التي تمارسها الأحزاب الدينية الشيعية، من دون قصد طبعاً. قبل أيام زرت إحدى المؤسسات العربية والتقيت أحد مسؤوليها العراقيين، وقد فاجأني أثناء تقديمه لنفسه بالقول إنه بعثي! وذكر أنه فخور بماضيه السياسي «لأن البعث لم يكن يميز بين الناس على أسس دينية أو طائفية كما الآن»، مضيفاً أنه وباقي البعثيين غير مسؤولين عن جرائم صدام حسين في حق الشعب العراقي، والرجل، بالمناسبة، ليس من الطائفة المتهمة حالياً بإيواء البعثيين. لقد أصبح كثيرون من البعثيين السابقين يفخرون الآن بانتمائهم الى حزب «البعث» بسبب ممارسة خصومهم التمييز ضدهم، وهذا ما لم يحلم به أي منهم سابقاً. لا أحد ينكر أن عدداً من قيادات حزب «البعث» منذ مجيئه إلى السلطة عام 1963 ارتكب جرائم بشعة في حق العراقيين، لكن المنتمين إلى الحزب ليسوا مسؤولين عنها، بل كانوا من ضحاياها وليس هناك قانون أو دين أو عرف يقر الاضطهاد الجماعي لأعضاء حزب أو مجموعة ويأخذهم بجريرة قادتهم. آن الأوان كي يتوقف قادة العراق الجدد عن الإنصات الى آراء حلقة ضيقة من أعضاء أحزابهم، ممن تقوقعوا في الماضي واستسلموا لنوازع الانتقام والثأر. عليهم أن يستمعوا إلى الأصوات الأخرى الكثيرة المخلصة، المطالبة بإلغاء التمييز بين المواطنين على أسس سياسية وفتح صفحة جديدة تمكِّن العراق من بلوغ الاستقرار والوئام الاجتماعي الذي يبحث عنه منذ عقود.