يقول توفيق الحكيم: «قد يظن بعضهم أنك إذا أردت أن تكون شاعراً فما عليك إلاّ أن تأتي بموضوع تتناوله الصحف اليومية وتكتبه نثراً، ثم تقسّمه إلى جمل مختلفة في الطول والقصر، وتضع كل جملة في سطر، ولا بأس من أن يكون في السطر كلمة واحدة، أو كلمتان، وحبذا لو كان بين السطر والسطر سجعة أو سجعتان، ليقع من ذلك في الأذن ما يشبه النغم، ولم أفطن إلى هذا إلاّ حين قال أحدهم بغير حيطة: الغرض هو التحرّر من قيود الوزن والقافية التي كان يفرضها الشعر القديم، أي أنهم أرادوا اجتناب الصعوبة بإلغائها، وإلغاء الصعوبات أمر مستحسن دائماً إلاّ في الفن، لأن الفن صعب ويجب أن يكون صعباً حتى يكون فناً»، ولا أجدني إلاّ وأنا أردد معه «يجب أن يكون صعباً حتى يكون فناً»، وهي عبارة تصدق على كل عمل مبدع وليس شرطاً أن يكون فكرياً إنشائياً، فكل إنسان في عمله بإمكانه أن يكون مفكراً وفناناً، حتى مسؤوليات القيادة يمكن أن تكون فناً وتحديثاً وابتكاراً، ويمكن أن تستمر توظيفاً للقديم لا تضيف شيئاً، ولا تستطيع أن تأتي بإضافة تذكر، لأن القائمين عليها ليسوا بفنانين، ولكن مجرد موظفين في مناصبهم. أول شرط إذاً أن يكون الأمر صعباً، وقد ينظر إليه الرائي والبعيد ويظنه سهلاً، ولكنه في حقيقته صعباً، أخضعه الفنان لقدرته وموهبته وتطويعه لأفكاره وجرأته في اقتحام الصعب، فلا بد من وجود صعوبات وعوائق وقيود، وشرط الفنان أن ينتصر على الرغم منها، لا أن ينتصر بإلغائها أو إهمالها، فاللاعب المتمكِّن يفوز مع احترامه لشروط اللعب، أما إذا بدأ بإلغاء الشروط ففيم الفوز إذاً؟! طبعاً بالإمكان أن نفهم أن يكون إلغاء الشروط لأنها سخيفة لا لأنها عسيرة، ولكن أن تلغى لأنها عسيرة بحجة أنها سخيفة فهذا أخطر ما يمكن أن يواجه به أي عمل في أي مجال، وبالمناسبة ليس أهون من أن يبقى الأمر القديم على ما هو عليه بلا تجديد، وليس أهون من أن يأتي المرء وينسف القديم نسفاً بزعم التجديد، ولكن السهل الممتنع أن تُبقي عليه وتطوره، فتكابد فيه وتعاني ليظهر ويبلغ الآخرين محتفظاً بأصالته وقيمته في المواكبة، حتى ليخيل إلى الناس أنه لم يكلفك شيئاً، بينما أنت وحدك تعلم كم نفخت فيها من روح الحياة الباقية، وهو معنى ومضمون بإمكانك أن تقيس عليه وتطبّقه على المدير في مكتبه، إلى الطباخ في مطعمه، إلى رجل الأمن على بوابته، أجل، فحتى الأمن له أصوله واجتهاداته، فرجل يحرس بوابته ولا يستهين بأمانته وأهمية موقعه على محدودية مساحته، هو رجل لو أتقن عمله وطور فيه، سيغيّر من مفهومه ويتحدى به ويستحق الترقية بسببه. المعنى أن نحارب أسلوب الاستخفاف والاستهتار والابتذال في كل ما يمس مناحي حياتنا، فالإنسان الحر في نظري هو المسؤول أمام ضميره وحده، فأنت لا تكون مراقباً في حياتك كل الوقت، ولكن نفسك عليك رقيبة، فإن تدهور حالنا أو انحدر مستوى خدماتنا في مجتمعاتنا فهذا لا يستثنينا من المسؤولية، وكما يُعبّر عنها ب«تأثير الدومينو»، فإن وقعت حبة تلحقها باقي الحبات، وقد يكون ترتيب حبتك متأخراً ولكن تأكد أن الدور سيأتي عليها وتترنح من أثر سقوط ما سبقها، فكل لحظة وتكون امتداداً لما قبلها وما بعدها، ثم دعنا نسأل: هل يعيش الرأي أو العمل إلاّ من خلال أثر يبقى، فحتى تربية الأبناء لا تحفر أثرها إن لم تسكب فيها من روحك وتضحياتك، ولا يستعجبني إلاّ من يتركها للرياح تفعل بأبنائه ما تشاء، ثم وجدته وقد مضى العمر يتساءل عن سبب إخفاق الأبناء؟ فإن ناقشته، كان جوابه الجاهز، حتى الملاجئ تخرّج رجالاً ونساء، فبماذا تجيبه وقد رمي بأبنائه تحت عجلات استثناء لا يقاس عليه ليريح نفسه من الأخذ بالأسباب، فلم يكن فناناً، ثم استشاط غيرة من إنجاز فنان لم يكنه، وهكذا هي معيشتك إما إبداع وفن، أو ألوان باهتة للوحة أبهت. [email protected]