نعم، هناك ربيع عربي بالتأكيد... ونعم أيضاً، رقعة هذا الربيع تتوسّع من بلد عربيّ إلى آخر... وبالتأكيد أيضاً وأيضاً لا يطاول هذا الربيع - في شكل جدّيّ حتى اليوم - سوى البلدان العربية المعلنة نفسها تقدمية وأكثر ارتباطاً بالحداثة، فيما لا نشهد أية تحركات ذات بال في البلدان الأكثر محافظة... كل هذا ليس معروفاً فقط بل يشاهد يومياً على الشاشات الصغيرة وأحياناً، على الشاشات الكبيرة. وهو يشاهد في الكثير من تجليّاته بدءاً بمشاهد العنف والقتل والدماء... وصولاً إلى احتفالات التحرير. وبدءاً من مشاهد القتال والتظاهرات المتضاربة، وصولاً إلى المسؤول السياسي «الثوري» الكبير الذي يختار للحديث عن انتصار ثورته البدء بالحديث عن العودة إلى تشريع تعدّد الزوجات! كل هذا نعيشه على الشاشات الصغيرة في أشكاله الإجمالية وتفاصيل تطوّره اليومية. نعيشه هكذا إلى درجة يبدو معها «الربيع العربي» ربيعاً على الشاشات أكثر مما هو ربيع في أيّ مكان آخر. وعلى هذه الشاشات الصغيرة نفسها نشاهد شتى ضروب التحريض الطائفي (في مصر على سبيل المثال) وشتى ضروب التهم الموجّهة الى الإعلام بأن «الحقّ عليه» في كلّ سوء يحدث. من دون أن ينسب إليه أيّ خير وأيّ دور فاعل في الوصول إلى الحرية وإزاحة الطغاة. إنه ظلم للإعلام مؤكد. ولكن، ألا يمكننا أن نقول إن هذا الإعلام التلفزيوني يظلم نفسه وتاريخه هو الآخر في تقاعسه حتى الآن عن لعب دور كبير في ما يحدث وبالتالي في توجيه الأحداث؟ إننا نعرف أن هذا الإعلام وتلفزيونه يلعبان حتى الآن دور الشاهد وأحياناً الشهيد... ولكن أليس ثمة دور آخر يلعبانه؟ إن المتتبع اليقظ كان يتوقع خلال النصف الأول من عام «الربيع» هذا أن تكون للشاشة الصغيرة ثورتها هي الأخرى من خلال ما تحسن القيام به: من خلال برامج ومسلسلات وعروض «ثورية» و «ربيعية» حقاً، يكون همّها أن توصل فكر الوعي وقيم الثورة الحقيقية المتوخاة لبناء الأزمان المقبلة. أي القيم المتحدثة بعمق عن حق الاختلاف، ووضع المرأة، ودخول العصر، وتصفية الحساب مع الماضي، وديموقراطية السلطة، وقبول الآخر... إن قيماً مثل هذه كانت في أذهان شبان الربيع العربي الحقيقيين يوم انتفضوا في ثورات لم يكن غريباً أن تسرق منهم بسرعة. اليوم لا يمكننا أن نجد هذا الربيع لدى أية سلطة تستولي على الحكم بفضل هذا الربيع... وتوازن القوى في مجتمعاتنا يجعل مواصلة الربيع الحقيقي أمراً غير ممكن... فلماذا لا يتواصل هذا الربيع أعمالاً فنية وتغييرية على الشاشات (في انتظار أن تحلّ توازنات قوى مقبلة لتبدّل الوضع من جديد بعد أن تفشل محاولات من يحلّون اليوم في الحكم محل الطغاة البائدين وليس ثمة في الوقت الحالي من بينهم من تشي سيرته أو أهدافه بأنه سيكون أفضل منهم)، وعلى غير الشاشات؟ إننا نطرح هذا السؤال على ضوء معرفتنا بالحكام الجدد وإدراكنا أن ثورة الوعي المقبلة ضدّهم... ستكون أصعب من الثورة على الطغاة. لكنها ثورة جديرة بأن تخاض، ميدانها هذه المرة الأفكار والفنون والآداب وشعارها الوعي لا السلطة.