تحتل فترة الأربعة أشهر الأخيرة، وبجدارة، مرتبة أسوأ فترة في تاريخ الصحافة السودانية، إذ شهدت فيها أحداثاً جسيمة ومتلاحقة يصعب حصرها، كانت تحدث في الماضي في فترات زمنية متباعدة، لكنها تعاقبت خلال الأشهر الأخيرة لتسجل رقماً قياسياً في انتهاكات حرية الصحافة في السودان. أولى الأحداث هي عودة الرقابة بأشكال متلونة ومختلفة، من الرقابة القبلية المباشرة، إلى إصدار التعليمات عبر المكالمات الهاتفية والرسائل غير المباشرة، لكنها تصب كلها في منع نشر بعض الأخبار والتقارير، مثلما يحدث الآن مع كل التصريحات والأخبار الصادرة من قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، وبالذات مالك عقار، ياسر عرمان وعبد العزيز الحلو. الرقابة... وعقاب إلى ذلك، ثمة أسلوب رقابي عقابي صارم اتبع في الفترة الأخيرة، وهو مصادرة أعداد الصحيفة المطبوعة عقاباً لها على خبر أو مقال نشرته قبل يوم أو أيام ولم يرض أهل الشأن. وهذا نوع من الرقابة، بحيث تُحجب الصحيفة وما تحمله من مواد عن أعين القرّاء، لكنه يعاقبها في الوقت ذاته عن طريق تكبيدها خسائر مالية جراء التكلفة العالية للطباعة، ثم مصادرة الصحيفة بعد الطبع وليس قبله. حدث هذا مع صحف عدة خلال الأشهر الأخيرة، مثل «الأحداث» و«أخبار اليوم» و«الصحافة»، وحدث في شكل متكرر ولأيام عدة مع صحيفتي «الميدان» (ناطقة بلسان الحزب الشيوعي) و «الجريدة»، وأخيراً مع صحيفة «ألوان». ولا يجري هذا الأمر بطريقة قانونية، وإنما باستخدام القوة الجبرية، إذ يحضر أشخاص مسلحون إلى المطبعة ويصادرون أعداد الصحيفة المطبوعة ويحملونها في سيارات شحن، ثم يتجهون بها نحو جهة مجهولة. ولا تتسلم إدارة الصحيفة أو المطبعة أي إخطار بالمصادرة أو أسبابها أو أي قرار ذي صلة. ويستند جهاز الأمن والاستخبارات الوطني على مادة مبهمة في قانون الأمن الوطني تعطيه حقاً غير محدود في مثل هذه الممارسات. خلال الفترة ذاتها أوقف صدور بعض الصحف بأعذار واهية وبقرار استباقي قبل الإعلان الرسمي عن قيام دولة جنوب السودان، بحجة وجود حملة أسهم من الأجانب ضمن ناشري هذه الصحف، ويقصد بهم حملة الأسهم من أبناء جنوب السودان. فصدر قرار في 8 تموز (يوليو) الماضي، قبل يوم من الإعلان الرسمي عن قيام دولة جنوب السودان المستقلة، بإيقاف صدور ست صحف، خمس منها تصدر باللغة الإنكليزية والسادسة هي صحيفة «أجراس الحرية» القريبة من الحركة الشعبية. وبالنظر الى تعقيدات كثيرة تشوب عملية الانفصال وتفكيك الروابط وتقسيم الأصول والديون، فإن من المؤكد أن هناك مشاكل كثيرة تشوب علاقات الطرفين ستحتاج وقتاً طويلاً كي يبتّ بها. ولهذا صدر قرار أعطى مهلة تسعة أشهر لتوفيق الأوضاع المتعلقة بوضع المواطنين الجنوبيين في السودان، ولذلك لا يزال هؤلاء المواطنون «الأجانب!» يدخلون ويخرجون عبر مطار الخرطوم بلا جوازات أو تأشيرات، وما يزال اللاعبون من أبناء الجنوب يلعبون في الفرق الرياضية من دون أن تنطبق عليهم توصيفات اللاعبين الأجانب. قضية واحدة كانت من العجلة بحيث لا يجوز إرجاؤها ليوم واحد، بحسب رأي مجلس الصحافة، وهي استمرار صدور صحف يساهم في رأسمالها جنوبيون، على محدوديتهم، وبالذات «أجراس الحرية»، علماً أن 93 في المئة من أسهمها يملكها أشخاص من شمال السودان، ولم يكن فيها من حملة الأسهم من جنوب السودان إلا شخص واحد يملك 7 في المئة من الأسهم، إذ طبق مجلس الصحافة القرار عليها فوراً، ثم أعقب ذلك بسحب ترخيصها في شكل نهائي. وزادت الأمور سوءاً حينما تركت بعض الأجهزة مهمتها في حماية الوطن وانصرفت لمطاردة بعض الكتاب الصحافيين في رزقهم وأكل عيشهم، فمنع جهاز الأمن ثلاثة من الصحفيين هم: فائز السليك، خالد فضل، ورشا عوض من الكتابة في الصحف، ومصادرة أي صحيفة يكتبون فيها، وهو ما خضعت له صحيفة «الجريدة»، التي تعرضت للمصادرة أياماً متتالية بعد تعاقدها مع الكتّاب الثلاثة الذين كانوا من كتّاب صحيفة «أجراس الحرية» الموقوفة. وتلقت الصحيفة رسالة غير مباشرة من بعض الجهات تربط المصادرة باستكتاب هؤلاء الصحافيين. توسع في استخدام القوانين وتوسع مجلس الصحافة في استخدام السلطات التي يمنحها له القانون، فأصدر قراراً بإيقاف ست صحف رياضية عن الصدور، من بين تسع صحف رياضية تصدر في الخرطوم، وبحيثيات تختلف عما يورده صانعو القرار في الأحاديث الصحافية، فالحيثيات الواردة في القرار الرسمي كفيلة بإغلاق كل صحف الخرطوم، لأنه يتحدث عن عدم الوفاء بكثير من اشتراطات الصدور، مثل عدد المحررين وإمكانات الصدور والمساهمة في صندوق تدريب الصحافيين، بينما كانت الأسباب التي تقدم في الأحاديث الصحافية تتعلق بسلوك الصحف الرياضية وخروجها عن الأدب واللياقة والدخول في مهاترات وشتائم شخصية. وفي الوقت ذاته، تتوسع الدولة في استخدام القوانين التي سنتها ضد الصحافة والصحافيين، وفي شكل لم يحدث سابقاً، إذ حكم على صحافيتين هما أمل هباني وفاطمة غزالي بالسجن بعد رفضهما دفع غرامة مالية قررتها المحكمة في القضية المعروفة باسم «قضية صفية اسحق»، وهي فنانة تشكيلية وناشطة اتهمت بعض رجال الأمن باغتصابها أثناء اعتقالها في شباط (فبراير) الماضي وفتح جهاز الأمن بلاغات ضد كل الصحافيين الذين كتبوا عن قضيتها، وصدر الحكم على هباني وغزالي ولا تزال تجري محاكمة الدكتور عمر القراي وفيصل محمد صالح (كاتبي المقال) في قضايا منفصلة حول الموضوع ذاته. وهناك عشرات القضايا الأخرى المرفوعة ضد صحافيين، مثل الحاج وراق وفايز السليك الموجودين خارج البلاد. وأطلقت السلطات في شهر رمضان الماضي سراح صحافيين اثنين اعتقلا على ذمة اتهامات موجهة إليهما من جهاز الأمن، هما أبو ذر علي الأمين وجعفر السبكي، وظلا معتقلين طيلة فترة التحري، فمكث السبكي 9 أشهر في المعتقل، بينما أمضى أبو ذر حكماً بالسجن سنة ونصف السنة في قضية نشر سابقة، ولم يطلق سراحه بعد انتهاء المدة، إذ حوّل إلى الاعتقال على ذمة قضية ثانية، حتى أطلق سراحه في رمضان الماضي إثر تدخل وزير العدل بعد إثارة قضيته في الصحف. اتهامات بالعمالة ولا ينتهي الأمر عند هذا الحد، لأن الصحافة السودانية موعودة بقانون صحافة جديد أكثر تشدداً من القانون الحالي الصادر عام 2009. وتجيء عملية إعداد القانون الجديد وسط حملة محمومة من الهجوم والاتهامات ضد الصحافة السودانية من مسؤولين كبار، بدأها وزير الإعلام كمال عبيد ووزيرة الدولة للإعلام سناء حمد، ووصلت إلى رئيس الجمهورية ونائبه اللذين اتهما الصحافة بالمبالغة وتهويل قضايا الفساد ونشر الفتنة، واختتمها رئيس البرلمان أحمد إبراهيم الطاهر باتهام الصحافيين بالعمالة. ويقول رئيس لجنة الإعلام في البرلمان فتح الرحمن شيلا (مؤتمر وطني)، إن القانون الجديد يسعى الى مزيد من الحريات، وهو ما لا يصدقه الصحافيون الذين أبدوا دهشتهم من سعي اللجنة لسن قانون جديد في حين أن عمر القانون الساري سنتان فقط. وعلى رغم سوء القانون الحالي وتضييقه على الصحف والصحافيين، لم ترتفع أي مطالبات بتغييره، لاعتبار أن البرلمان الحالي الذي يسيطر عليه المؤتمر الوطني بنسبة 99 في المئة لا يمكن أن ينتج قانوناً أفضل من القانون الحالي. ولا تزال مسوَّدة القانون الجديد سرّية لم يطلع عليها أحد، ولم تعرض على لجان البرلمان، ويتشاور حولها ممثلون عن لجنة الإعلام في البرلمان ومجلس الصحافة واتحاد الصحافيين الذي يقف مؤيداً لكل الخطوات الحكومية ضد الصحافة والصحافيين.