ظن الإسرائيليون أن توقيع المعاهدة المصرية - الإسرائيلية (26 آذار/ مارس 1979) سيفتح باب تطبيع رسمي وشعبي مع المصريين. تحقق الأمر الأول فقط جزئياً بسبب تردد السلطات المصرية في الإيغال بعيداً، بعد أن قرأت جيداً موقف المجتمع المصري من التطبيع. على الصعيد الشعبي، واجه الإسرائيليون جداراً صلباً من الرفض، ربما كان أكبر مقياس له هو ما كان يلمسه السائح الإسرائيلي عندما يمشي في شارع أو يجلس في مقهى، وهو ما لم يتغير خلال ثلاثة عقود من الزمن. هذا أدى عملياً إلى أن يقتصر التطبيع على الحاكم السياسي لمصر وجهاز سلطته، وهو أمر سلَم به الإسرائيليون، خصوصاً حين لمسوا أن الأمر لم يكن مقتصراً على المصريين وإنما شمل كل العرب الذين سمحوا بسفارات أو ممثليات تجارية إسرائيلية في بلدانهم، وقد كان الإسرائيليون في ذلك مستندين ومطمئنين إلى الحالات العربية التي اختصر فيها الحاكم الفرد، ومعه جهاز سلطته، المجتمع ، ملغياً صوته وإرادته. تغيَرت تلك الحال العربية عام 2011، مع بدء موجة ديموقراطية عمّت العديد من البلدان العربية، فوجئت الدولة العبرية بالسهولة والسرعة التي سقط فيها الرئيس المصري أمام طوفان اجتماعي اجتاح شوارع القاهرة والإسكندرية والسويس، لتشعر بعده بأنها أمام المجهول بعد بدء حقبة عربية وضح أن إحدى سماتها الرئيسية هي صعود قوة المجتمعات إلى السطح السياسي، وهو ما لم يكن في حسبان أي رئيس وزراء إسرائيلي منذ مناحيم بيغن، الذي قام بتوقيع تلك المعاهدة، في أن يحصل عند العرب ما هو موجود عند الإسرائيليين حيث المسؤول يرتعد خوفاً عند أي خطأ أو هفوة يرتكبهما خشية أن يحاسبه المواطن الإسرائيلي، كماحصل مع اسحق رابين(وهو الذي وضع الخطة العسكرية لحرب 1967 عندما كان رئيساً للأركان) لما استقال من رئاسة الوزراء عام1977 بسبب إيداع زوجته مبلغاً غير كبير في بنك أميركي من دون كشف منه ومنها بذلك إلى الدوائر المختصة. كان الارتباك الإسرائيلي عاماً ولم يقتصر على المسؤولين وإنما شمل أيضاً المعلقين في صحف الدولة العبرية، وقد كان هناك إحساس عندهم، رغم تأكيد الحكام العسكريين المصريين الجدد التزامهم المعاهدات الموقعة، بأن معاهدة 1979 بعد الأحداث المصرية ليست أكثر من توقيع مشترك مع فرد وسلطته وليست مع دولة، والتي هي - أي الأخيرة - مجموع تركيبي لسلطة وجغرافية ومجتمع. وبالتأكيد، فإن تلك الليلة التي جرى فيها اقتحام جموع من المتظاهرين المصريين السفارة الإسرائيلية قد كثفَت عند الإسرائيليين ذلك الشعور، وجعلته طاغياً. ربما، كان كلام رئيس الوزراء الإسرائيلي لدى استقبال الأسير جلعاد شاليط أفضل تعبير عن ذلك الشعور الإسرائيلي: «أخذت هذا القرار المؤلم خوفاً من أن يصبح مجهولاً مصير شاليط، مثلما هو وضع رون أراد»، وهو الذي أعاب على إيهود أولمرت اقترابه من صفقة مع «حماس»، برعاية الألمان، فيها تنازلات إسرائيلية أقل حيال موضوع شاليط، فيما نراه الآن وقد اتجه بسرعة إلى حسم الموضوع بأثمان إسرائيلية أكبر، وعبر وساطة حكام القاهرة الجدد، وبالتزامن مع اعتذار إسرائيلي عن قتل الجنود المصريين في سيناء الذي سبّب اقتحام السفارة في القاهرة. لم تفعل تل أبيب هذا مع أنقرة بخصوص مقتل الأتراك في سفينة مرمرة: في هذا الصدد، لم يشعر الإسرائيليون بخطر ما ظنه الرئيس السادات، منذ تخليه عن السوفيات واقترابه من واشنطن أواسط السبعينات، بأن مصر ستتولى مهمات محورية لمصلحة الولاياتالمتحدة في عموم منطقة الشرق الأوسط على حساب الدور الإسرائيلي، فيما يشعرون، منذ تعويم واشنطن الدور التركي بدءاً من عام 2007 في مواجهة التمدد الإيراني في المنطقة، بأن هناك تناقصاً في أهمية إسرائيل عند الغرب الأميركي لمصلحة تركيا. وليس صدفة أن تأتي الضربة الإسرائيلية لتلك السفينة التركية عقب أسبوعين من ذلك «الفاول» الذي سجلته واشنطن على أنقرة حين وقعت في 17 أيار (مايو2010) مع البرازيل وإيران على ذلك الاتفاق بخصوص الملف النووي الإيراني، قبل أن يعود أردوغان للانتظام سريعاً ضمن الرؤية الأميركية تجاه طهران، وهو ما وصل إلى ذروة كبرى في خريف 2011 مع نشر تجهيزات برنامج الدرع الصاروخية الأميركية في الأناضول (كشف مؤخراً عن أن الموافقة التركية على هذا تعود إلى قمة «الناتو» في لشبونة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2010. هذا التوجس الإسرائيلي من أنقرة يتعزز ويتراكب مع الدور الذي يلعبه رجب طيب أردوغان منذ بدء الموجة الديموقراطية العربية، من حيث كونه يقدم النموذج التركي، القائم على ثالوث: الجيش - الإدارة - الإسلاميون، كنموذج للمنطقة العربية في مرحلة «ما بعد البوعزيزي»، وهو ما يجرى العمل عليه، مع الرضا الأميركي، في القاهرة وطرابلس الغرب وتونس، وتبذل الجهود حثيثاً لتحقيقه في صنعاء. هنا، تشعر تل أبيب بأن الدور التركي لم يعد مقتصراً على الاستراتيجيات والأدوار وإنما هو أبعد من ذلك بكثير عند واشنطن، ليصل إلى «هندسة الدواخل العربية» عبر ذلك النموذج الذي بدأ يصطدم (من أجل الدخول إلى الأفئدة العربية) بتل أبيب على الهواء مباشرة في صورة تلفزيونية، كما جرى في مؤتمر دافوس من صدمة أردوغان لشمعون بيريز بعد أيام قليلة من الفشل الإسرائيلي في حرب غزة أمام قوات حركة حماس. هنا، لا يمثل أردوغان فقط فشل إسرائيل في الحفاظ على مكانتها لدى الغرب الأميركي خصوصاً في حربي 1967 و1982 أو التي كانتها بالنسبة إلى لندن وباريس في حرب السويس، وإنما يعبر أيضاً، كنموذج إسلامي ترعاه واشنطن وتريد تعميمه عربياً، عن كل ما تخشاه إسرائيل من القادم المجهول مع «الربيع العربي»، وهو ما يبدو معه أن الإسرائيليين، على الصعيد المنظور والمتوسط المدى، لم يعودوا أمام أوضاع كهذه يكتفون بالخشية على مصائر معاهداتهم واتفاقاتهم مع الحكام العرب، وإنما يمتد الأمر عندهم للخشية من مسارات ستكون فيها إسرائيل في وضعية (القلعة المحاصرة) في المنطقة، مثل غرناطة في خريف الفترة الأندلسية، الأمر الذي يعبر عنه رمزياً أفضل تعبير ذلك «الجدار العازل» الذي بناه أرييل شارون. * كاتب سوري