كان الطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة جسدياً، ومن أفصح الناس لساناً وفي عينيه لمعة اللمّاح المتوقد الذكاء. قال للرجل الكبير، من دون تردد ومن دون اكتراث بمن حوله من الرجال: «أنت يعني جيت معي» فبادره رحمه الله بابتسامته المعتادة: نعم أنا شفتك في حائل، وعرضت معك، تيجي عندي، فرفعه والده من كرسيه الذي كان يدفعه فيه إلى صدر الأمير الذي حمله وقبّله. قال له الأمير سلطان: «أنت مبسوط؟» فكان رد ذلك الطفل الموهوب: «أنا أحبك». نعم يا بني إن الملايين من السعوديين ومن غير السعوديين أحبوا سلطان بن عبدالعزيز حياً، وبكوه ميتاً كما يبكي الناس فقد أحبائهم. إن كل مقطع من صور ذلك الفيديو، فعلاً لا مجازاً تنطبق عليه المقولة الأجنبية بأن «الصورة الواحدة تغني عن ألف كلمة». لقد رأيت مراراً ما يشبه ما جاء في ذلك الفيديو من إنسانية متدفقة يصعب وصفها في مناسبات لم يتم تصويرها. نعم كلنا من قريبين منه ومن بعيدين، كنا نعرف أنه كان يعاني من مرض خطير. وكلنا نعرف أن كل إنسان، في نهاية المطاف، سيموت. ولكن هذه المعرفة لم تقلل من الشعور بهذه الرزية. فيصعب على أغلب السعوديين أن يتصوروا الحياة العامة من دون أن يروا إطلالة وجه سلطان المبتسم البشوش في كل الظروف والأوقات. لم تجتمع في إنسان ممن عرفت أو قرأت عنه، الصفات التي اجتمعت في ذلك القائد المحنك الذكي اللمّاح، وفي ذات الوقت الخلوق الذي جبله خالقه على السخاء وحب الخير مع تواضع جم لن تجده إلا في كبار القادة الملهمين. يقول الأمير محمد بن أحمد السديري، وهو خال الأمير سلطان: سلطان لو أمة محمد تزوره لضاق ديوانه ولا خاطره شان وما كان كرم الأمير سلطان من قبيل الضيافة ومراسم العلاقات العامة، وإنما سخاءً عفوياً يعكس نفساً سخية. وما الخصبُ للأضياف أن يكثر القِرى ولكنَّما وجهُ الكريم خصيبُ والكثيرون يعرفون أنه، رحمه الله، وكما وصفه الأمير سلمان بن عبدالعزيز بأنه كان «جمعية خيرية متنقلة». ومع أنه، رحمه الله، وجعل قبره روضة من رياض الجنة، كان رجلاً بشوشاً خلوقاً سخياً لا يقابل أحداً بما يكره، فإنه أيضاً كان رجلاً ذكياً لماحاً سريع البديهة قارئاً متمكناً يستوعب ما يقرأ، محنكاً داهية، يعطي الأشياء أوزانها الحقيقية. لقد ذكر رجل من كبار الرجال قدراً وسناً، وممن رافقوا الأمير سلطان لمدة تجاوزت ستين سنة، بما معناه، أنه قد يتهيأ لمن يرافقه لأول مرة في حله وترحاله، وبأن للأمير سلطان ستة عيون خفية بالإضافة الى العينين المعتادتين، كناية عن فطنته وقوة لحظه وألمحيته. لقد كان يتبع الملك العظيم فيصل بن عبدالعزيز كظله في جميع الأوقات والمناسبات. وليس سراً أنه رحمه الله كان يعتبر قدوته والده المؤسس العظيم ثم أخاه الملك فيصل. بل إنه كان يعتبر الملك فيصل أستاذه ومعلمه في تحمل المسؤوليات الجسام والصبر المنقطع النظير والدأب على العمل والثبات في الأوقات التي خلالها تتزعزع الأفئدة والعقول. يقول الأمير خالد الفيصل الذي أحب وأعجب بعمّه سلطان وعرف كثيراً من صفاته: تزود همومه ويضحك «حجاجه» تحسبه ما عرف هم الزمان وهو من كابد صروف الليالي وجرب كيدها سر و «علان» وقال إيليا أبو ماضي: الشجاع.. الشجاع.. عندي من أمسى يغني والدمع في الأجفان قلت له مرة، بينما كنت من مرافقيه الكثر، في زيارة لمنطقة عسير امتدت لأكثر من أسبوعين «ما أصبرك يا طويل العمر على الناس ومشكلاتهم الحقيقية والمفتعلة وطلباتهم المعقولة وغير المعقولة؟» فكان رده تغمده الله برحمته: الصبر هو الصبر على النفس، قبل الصبر على الآخرين. ثم سألت رجلاً رافق الأمير سلطان منذ كان أميراً للرياض عام 1947، ومع أنه ليس رجلاً متعلماً، فإن الله وهبه العقل والنباهة والفراسة ما يؤهله ليؤخذ رأيه مأخذ الجد في محيط معرفته، فقال لي، لقد رافقت الأمير سلطان لمدة تجاوزت نصف قرن مسافراً ومقيماً، وكل ما أستطيع قوله بثقة هو ما معناه «أن هذا الأمير بحر عميق متلاطم الأمواج لا يعرف كل ما فيه إلا خالقه»، ولا تصدق أي شخص آخر يقول لك إنه عرف في أي لحظة من اللحظات، ما يدور في رأسه الكبير. ثم روى أبيات الأمير خالد الفيصل الآنفة الذكر. ولا أزعم، على المستوى الشخصي، إنني كنت موضوعياً في كل ما ذكرت لأنني مدين له رحمه الله في كل شيء. ولكنني أقول لقد حاولت بقدر ما استطعت ان أوظف ما تعلمته من منهجية علمية، في ذكر لمحة عابرة عما شاهدت وعرفت عن قرب وعن بعد. ولا أزعم ولن أزعم قط أنني عرفته أكثر من غيري ممن هم أذكى وافطن، وعرفوه لفترة أطول. فقد الوطن، بل والأمة كلها، رجلاً كبيراً وقائداً سياسياً مجرباً مارس الحياة العامة لفترة تجاوزت نصف قرن، وقائداً إدارياَ تنفيذياً ملهماً له مدرسته الخاصة به. ووهبه الله شخصية مغناطيسية جذابة لا منفرة، فأحبه الكثيرون، وسيبكيه الكثيرون. رحمه الله رحمة واسعة وغفر له، وحفظ الله والدنا وقائدنا الملك الصالح المصلح الفارس العربي الشهم، خادم الحرمين الشريفين، عبدالله بن عبدالعزيز وشد أزره بإخوته. والله من وراء القصد. * أكاديمي سعودي