اكتسب قصر فرساي حلّة قشيبة وفرحاً لونياً بعد تعليق لوحات الفنان الفرنسي فيليب كونيي فيه (من مواليد مدينة نانت الفرنسية عام 1957). هو القصر الذي يمثل ثروة تراثية أرستوقراطية ملكية في ظاهر باريس لا يعادله حتى قصور أللوار. تقع أهمية الحدث التشكيلي وفرادته في أن لوحاته صُممّت من أجل الجدران التي تعتليها لتكون دائمة، وكي تصير جزءاً لا يتجزأ من التأويل الحداثي والمعاصر للأسلوب المعماري في القصر، هو الذي يحتوي على أبرز متحف أنتربولوجي في العاصمة، وكان أُلحق به مستشفى عريق عام 1996 تابع لوزارة الدفاع الغنيّة الموازنة مقارنة بموازنة القصور والآثار. ابتدأت قصة سخاء موازنته عندما قررت وزارة الدفاع ترميم المستشفى ثم تعمم هذا المشروع ليشمل ترميم كامل القصر (والأهم من ذلك) استكمال تاريخ تزيينه فنياً، وذلك لسبب ما يمثله من مركزية رمزه الوطني والتاريخي الملكي. يعتبر تحفة عمائر القرن السابع عشر الفرنسية، ارتبط زهوه البصري باسم المهندس المعماري برنار ديسمولان الذي أعاد إنشاءه المعماري بروح الاستكمال الأسلوبي التراكمي ليبدو أشد انفتاحاً على المعاصرة مع الحفاظ على اتزانه الهندسي، هو ميراث العاهل شارل لوبران الذي ابتدأ تزيين القصر في عهده، وقبل أن يكلف العبقري الرومانسي «أوجين دولاكروا» تزيينه على طريقته شبه الاستشراقية عام 1839. أما القاعات التي استقبلت لوحات فناننا فترجع إلى حقبة الملك لويس الرابع عشر الذي أطاحته الثورة الفرنسية مع زوجته ماري أنطوانيت. تعاقب في بحر القرن العشرين عدد من الفنانين الأصيلين لتزيين القصر، ذلك أن التكليف يتم وفق القانون الثقافي العام أي وفق مسابقة ديموقراطية حرة، من أجل اختيار أفضل المواهب والمشاريع، فاز كونيي هذه المرة بشرف هذا التكليف بمسابقة دورة عام 2008، واستمر في العمل المضني والمبرمج حتى قبل أيام. يشرح هو نفسه أشهر التحضير المديدة بما فيها تحضير الوثائق الفوتوغرافية التي تقتنص تفاصيل زوايا هذا القصر والصالحة لإعادة التأويل وفق أسلوبه العاطفي المعروف. ثم تثبيت الأداء التقني ابتداءً من رسوم اليد التكوينية. هو ما يفسر أن توقيعها جميعاً كان ممهوراً بتاريخ العام الراهن 2011، تاريخ الإنجاز النهائي بأسلوبه مع العمارة. اختار للوحات شكلاً دائرياً واستلهم في تكويناته الذاكرة الحميمة للمداخن والثريات والنوافذ والحدائق، ورسخت طريقته في الإضاءة شبه الانطباعية إلى التلاعب بالمواقع الضوئية القزحية وتبادل كل مرة الداخل مع الخارج معتمداً على تقنية عريقة (مأخوذة من فريسكات المعابد المصرية القديمة) هي الألوان بالشمع. صورها على أقمشة مؤسسة وملصقة على صفائح خشبية مقاومة بسبب سماكتها سنتمترات قليلة. يعتبر فيليب كونيي من أبرز فناني جيله. ترجع حساسيته الشمولية إلى أنه قضى سنوات طفولته في بنين في أفريقيا قبل أن يدرس في بوزار مدينة نانت الفرنسية، وبعد تخرجه بفترة قصيرة حصل على جائزة روما في التصوير عام 1982، ليحصد بعد سنوات جائزة ميديتشي محافظاً على إقامته ووفائه للمدينة التي عاش في كنفها بعيداً من مركزية عاصمة التشكيل باريس، حتى أصبح اسمه يمثل الحركة الفنية فيها. وبدأ يعرف في باريس ابتداءً من نيله جائزة «مارسيل دوشامب» عام 2004، ما أهله للعمل مدرساً ومسؤولاً محترف التصّوير في المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة (المعروفة باسم البوزار) في باريس، وذلك ابتداءً من عام 2005 وحتى اليوم. وهكذا تحولت إقامة محترفه إلى باريس بخاصة أنه تعاقد مع «غاليري تامبلون» كي تعرض له كل موسم. تتزامن مع هذا النشاط معارض تكريمية تقاطرت في المدن الفرنسية الأخرى بين آنجيه وألكس ونورماندي، ثم أخذت المتاحف تتنافس على اقتناء أعماله حتى أصبحت جزءاً من مجموعة الفن المعاصر لمركز بومبيدو ومتحف لودويغ والمجموعة الوطنية للفن المعاصر وسواهم مثل مجموعة كارتييه. وإذا كانت لوحاته الدائرية المشار إليها قد تسربت إلى قصر فرساي لتخصيب أسلوبه فإن ذلك لم يكن ممكناً لولا القانون الذي تتمسك به وزارة الثقافة الفرنسية (ويحتاج العرب اليوم للاحتذاء بحذوه واعتباره نموذجاً لحماية الفن التشكيلي) وهو قانون يعرف ب «الواحد في المئة». بمعنى أن هذه النسبة مفروضة على موازنة أي بناء حكومي من القطاع العام أو حتى المؤسسات الأهلية وذلك بتخصيص هذه النسبة للأعمال الفنية. ناهيك عن إعفاء القطاعات الخاصة من الكثير من الضرائب. هذا ما يفسر تحول المدن الفرنسية والعاصمة خصوصاً إلى متحف فني متحول متداخل ومستقطب للحياة اليومية. كما يساهم هذا القانون بديموقراطية التنافس الإبداعي وتقويم قدرات وأصالة أي تجربة فنية بمعزل عن التوجه الذوقي أو الأيديولوجي الرسمي. إن تأمل لوحات فيليب كونيي في قصر فرساي تثبت الأسباب الأصيلة في اختياره، بخاصة أن فنه ارتبط (مثله مثل فن جيرار غاروست وفيالات) بثورة الطلاب الباريسية عام 1968 على رغم وجوده في نانت. هي الروح التجديدية التي تجمعه مع أبناء جيله الذين رفعوا الحدود بين التجريد والتشخيص.