في ورشة حول الإبداع والصحة النفسية عقدت في بيروت شاركت فيها بمعية الروائي اللبناني الدكتور رشيد الضعيف، أستاذ الأدب العربي في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت، والشاعر والروائي عباس بيضون والروائي اللبناني حسن داود، الدكتورة بسمة عبدالعزيز، وهي كاتبة قصة قصيرة وطبيبة نفسية مصرية، وكذلك الدكتور فيصل يونس وهو أستاذ علم نفس مصري ومدير المركز القومي للترجمة في القاهرة. وإدارة أستاذ الطب النفسي الدكتور إبراهيم الخضير، أربعة أدباء روائيين يقابلهم ثلاثة أطباء متخصصين في علم النفس وعلاج الأمراض النفسية إضافة إلى اهتمامهم بالأدب واشتغالهم فيه، كان في جعبتنا الكثير مما تداولناه على طاولة المدارسة والنقاش، خلال يوم عمل كامل، قدمت خلالها قراءات لبعض الحالات في مجتمعنا السعودي من مبدعين وأدباء استعرضتها سريعاً. انتقلنا إلى آخرين وقعوا ضحية الأمراض النفسية التي قادتهم إلى الانتحار، ثم اتفقنا تقريباً على مجموعة من النقاط، كان مثارها السؤال حول الدوافع أو الظروف التي تزحلق المبدع ليقع في هذه الهاوية، التي مهما حاولنا ردمها فسيظل السؤال عالقاً. وبما أننا على مقربة من ملتقى المثقفين الثالث أجد من المناسب جداً طرح هذا السؤال ومفاده: لماذا تؤول حياة المبدع الموهوب على هذا النحو المأسوف عليه؟ بعضهم يفلسف هذه الحالة التي تكاد تكون ظاهرة في أوساط المميزين في مجتمعاتهم من دون أن يقام لهم وزنٌ؟ هل يحدث ذلك لأن المثقف والفنان والأديب الموهوب يعيش بإحساس مرهفف هو كالمرآة الصقيلة، التي تتأثر سريعاً وتتفاعل بالحياة بشكل دراماتيكي، فمنها تقتات وتتغذى نصوصه من شاعريته المفرطة بالرهافة فتسوقه إلى حالات القلق، وربما الوهم والوسواس، حتى تتهرأ حبال تواصله مع المجتمع، وفي مراحل تالية سيفقد ذائقته للحياة، ومن ثم تخبو جذوة روحه المبدعة؛ الروح التي باتت تنزع إلى ظلامية الموت أكثر من وهج الحياة! نهاية هذا اليوم الكامل «اعني الورشة» استنتجت عدداً من الأفكار منها: ان إحساس المبدع بالغربة هو الوطن الخلفي الذي يسكنه المبدع بعيداً عن الناس فلا يشعر به أحد، بعضهم أحالها إلى ضيق ذات اليد، فالمبدعون للأسف يعانون من ضائقة مادية بسبب تفرغهم للكتابة، وترك سبل التقاط العيش أو خوض غمار التحصيل المادي للآخرين. فكم من مبدع عاش متشرداً بلا مأوى حتى دهمته الأمراض النفسية ودكته العلل الجسدية فقط لأنهم لا يجيدون لعبة مد اليد والتسول مثلهم مثل كثير من الناس، كما أن كثيراً منهم لا يحسنون تمثيل أدوار «المشخصاتية» المجيدة للتقمص ولبس كل الأدوار بغية الحصول على منفعة عاجلة كأولئك الذين أصبحوا دعاة على أبواب الفضائيات العربية، هذا عدا أن اتجاهات بعض المبدعين سابحة عكس التيار، إضافة إلى أنهم دائماً ما يقعون مغبة جهل الناس برسالتهم، وبأهمية وجودهم بينهم، ودورهم في تصحيح مسارات المجتمعات وترقيتها، ورفع ذائقة الإنسان، في مجتمعات كمجتمعاتنا المنصرفة إلى الكلمة السهلة المخبوزة بعجلة، كالوعظ والإرشاد، مما يلبي أدنى متطلبات الناس النفسية والروحية لم يعد للفنان الحقيقي أو المبدع الصادق الوزن الكافي الذي يبقيه قريباً من ذائقتهم فيلجأ المبدع أخيراً للتواري، مؤثراً الموت صمتاً أو شنقاً. ظاهرة انتحار المبدعين والمثقفين معروفة تاريخياً، فهناك من الدارسين من يقول إن طرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم وأبو حيان التوحيدي انتحروا، وهذه اللوثة المردودة إلى حالة البؤس لا تزال مستمرة، إذ أحصت الكاتبة جمانة حداد في كتابها الصادر حديثاً بعنوان «سيجيء الموت وستكون له عيناك» 150 مبدعاً انتحروا في القرن ال20، بينهم 15 مبدعاً عربياً، ومن مبدعي العالم الموسومين «بفذاذتهم» الخاصة كوستلرو همنغواي ويسينين وماياكوفسكي ومونترلان وبولنتزاس وكاواباتا وفرجينيا وولف وجاك لندن وميشيما الذي غرس السيف في صدره، فيما تولى شخص آخر حز رأسه على مرأى من الجميع. في السعودية لن تغيب عن أذهاننا حادثة انتحار الدكتور ناصر الحارثي. ولعل أكبر شاهد على ذلك الشاعر حمد الحجي الذي أصيب في قواه العقلية عام 1961 جراء فاقة وفقر أدنفا حياته؛ اذ أفاد الأطباء بأن لديه انفصاماً حاداً في الشخصية، ثم بدأت رحلة علاجه داخل مستشفيات المملكة ثم إلى الكويت ومنها إلى إيران ولبنان ومصر ولندن ولم يطرأ إلا تحسن خفيف على حالته حتى آل به المرض إلى مستشفى «شهار» بالطائف؛ وبقيت صحته تتراوح بين التحسن والتدهور وبقي على هذه الحال حتى قضى نحبه يرحمه الله عام 1989 وهناك من يموت بصمت، بعيداً عن ضوضاء الإعلام. أذكر أحد المبدعين كان لا يتورع في جلساته العامة والخاصة عن الإعلان عن حالته النفسية ومحاولاته المتكررة المشهودة للانتحار، بعدما صبت الحياة علقم مرارتها في حلقة، وأصبحت سبل التقاطه للعيش متعذرة وبالأحرى مسدودة. وهذه ليست حالة واحدة، ربما تكون حالة واضحة ومحددة، وهذا منتهى البؤس، فيما هناك حالات أخرى تتوارى بخباء الصمت، وغيرهم الكثير من الذين لم يجدوا من يقوم بعلاجهم بعدما عاثت في أجسادهم العلل والأمراض منهم عبدالعزيز مشري ومحمد الثبيتي. ألا يستحق هؤلاء أن يكونوا مادة للبحث والتقصي؟ وأن ينالهم شيء من اهتمامات ملتقى المثقفين الثالث، الذي استعيض به عن اسم ملتقى المثقفين والأدباء كما في دورته الثانية بتعميمية مفرطة بالكرم، من دون التفات الواضح إلى الفرق والواضح بين المثقف والمبدع؟ أرجو الا تنسحب عدائية بعض الأكاديميين المضمرة مع عدد من المثقفين الذين خلت المكتبة من نتاجاتهم الأدبية على هذه التسمية، فالثقافة أصبحت مفهوماً عائماً ينسحب على كل شيء، ثمة ثقافة نوعية وسعت من هذا المفهوم لا نستطيع التحجير عليه بحال من الأحوال، في الوقت الذي آل إلى تخصيص المعمم بغية التركيز على قضايا بعينها يراد لها أن تدرس بشكل يليق بها. أعود إلى المبدع مناط حديثنا وأقول: المبدعون هم وعي الأمة الحقيقي، أتمنى أن تولي الوزارة المعنية بالمبدع العناية الكافية به، بتقصي أحواله، والكشف عن خبايا المسكوت عنه من حياتهم، والأخذ بأيديهم حتى يتجاوزوا كل المحن والمصاعب ليبدعوا في مناخ جيد، وحتى لا تكون شهاداتهم الإبداعية مشغولة بالعمق الأسود من حياتهم، فتنسحب على رؤيتهم للحياة والمجتمع، وتظل هذه الشهادة معبرة عن واقع زمن معين، سيتناولها الدارسون مستقبلاً كحقائق لا تقبل النقض. فهل ستقدم الوزارة للمبدعين مثلما تقدم للممثلين المنتجين بسخاء على أعمال درامية وكوميدية بعضها تافه لحد الملل؟ هذه القضية يجب أن تناقش في ملتقى المثقفين والمبدعين الثالث. * كاتب وروائي سعودي. [email protected] twitter | @almoziani