كلما طالت محنة السوريين ازدادت إمكانية حصول انقسامات أهلية بينهم، ففي بلدٍ قابلية تفتته الاجتماعية سهلة، لا يمكن الاطمئنان إلى رسوخ سلمه الأهلي. القسوة الشديدة التي تبديها قوى الامن تجاه المحتجين ستدفعهم إلى إبداء قسوة أشد، إن لم يصل المجتمع الدولي إلى صيغة عاجلة توقف القتل والعنف. بطء المجتمع الدولي يضيّق الخناق على السوريين، وتراخي الجامعة العربية يمنح النظام وقتاً أطول للقمع وإرهاق المعارضين وتشتيت القوى الشبابية الناشطة. بين الصراع داخل سورية، وهو قيد التحول الصعب بين تصاعد وهبوط على وقع التظاهرات شبه اليومية، وكثافة قتل المدنيين، الذي ليس سوى مذبحة تتم بالتقسيط، فارق كبير في الزمان والظروف الداخلية والخارجية. فلا يمكننا إنكار انقسام الداخل السوري على نفسه، بين مؤيد يحركه الخوف الغريزي، ومعارض فقد الثقة كلياً بنظام الحكم، و «محايد» لن يبقى محايداً على كل حال. وفي ظل هذه الحالة تنمو بواعثُ التفتت والانقسام، التي في مجملها تقدم فائدة عملية مباشرة لتمكن الحكم القائم من تحويل النزاع ضده إلى نزاع بين «مؤيدين» و «معارضين»، أو «بعث» الرتابة في الوضع الذي يبدو غير قابل لحسم سريع، بحيث تستمر التظاهرات، التي بدأت عوارض الضعف والتضاؤل عليها واضحة، ويستمر القتل والتعذيب والاعتقال. ليس الصراع في سورية اليوم صراعاً على الحكم بمعناه القديم الذي كان يكفي فيه احتلال بضعة عسكريين مبنى التلفزيون والإذاعة ونشر بيان انقلابي، حتى يحسم ويعرف من الذي يتولى حكم البلاد. إنه صراع من أجل التخلص من استبداد الحكم لا الاستيلاء عليه، صراع من أجل تغيير جذري في العقلية السياسية بحيث يسترد السوري كرامته كإنسان ويضمن مستقبلاً يليق بتضحيات أبنائه وبناته. لقد دار معظم الصراع القديم، الذي جرى إلباسه وإخفاء حقيقته خلف ثياب أيديولوجية قومية وطبقية، بين عسكر وعسكر. أما الآن فإنه صراع بين «أقلية» عسكرية تتحكم بقوة العنف والثروة من جهة، وفئات مدنية شعبية فقيرة، تشمل معظم مناطق سورية. والمعارضة السياسية الداخلية ليست في وضع يسمح لها بتنبي أو رفض حركة الشارع، فليست هي التي أطلقته، ولا هي القادرة حتى الآن على وضع حد لنهايته على وجه يعود بالفائدة على السوريين. المعارضة الداخلية إعلامية وفكرية أكثر من كونها عملية وميدانية، وإن شاءت ذلك كان القتل أو الاعتقال مصيرها. وحال الخارج ليس أفضل من الداخل، غير أن مصطلح الصراع على سورية يعود إلى مخلفات الحرب الباردة وصراع القطبين العالميين، ودواعي ذلك وأسبابه لم تعد موجودة، ثم إن للداخل السوري اليوم، وللمرة الأولى في تاريخ البلد، قوة البدء والحافز والضغط. التجربة الليبية تخيف السوريين، وحوادث مصر الأخيرة تظهر مدى بؤس الردة الدينية البربرية التي يمكن أن تنفجر أضعافها في دولة كسورية معدّة بحكم تكوينها وطبائع سكانها لاحتمالات خطرة كهذه. ولا يقصد بالطبائع هنا الميل النفسي والتكويني إلى العنف، لكن النظر إلى الخريطة الاجتماعية والدينية والعرقية في سورية يبرر التفتت والانقسام، والعودة السقيمة إلى «الأصول» في أزمنة الخوف تعد المرشد الوحيد والأسوأ لمجتمع لم تترسخ فيه قيم الانتماء الوطنية العابرة لما قبلها من كيانات دينية وطائفية وعرقية. وتظل الانتفاضة السورية من دون رعاية سياسية جادة وقوية، ولم يظهر المجلس الوطني بعد قوة اعتراف إقليمية ودولية تمكنه من سرعة التحرك والوصول إلى مراكز القرار الدولية بحيث تقطع على النظام فرص الاستفادة من الوقت الذي يقضيه الخارج في التردد إزاء الطريقة الأفضل لوضع حد للكارثة الإنسانية، والتدخل الدولي لحماية المدنيين أصبح أكثر من مُلحّ، غير أن من المعروف سلفاً أن التدخل سيكون عبر حرب على قوة النظام العسكرية والأمنية، من دون ذلك ليس للتدخل من معنى ولا أثر على الأرض. وفي المجمل، تسير الأمور في سورية نحو ضعف اقتصادي لبلد ضعيف أصلاً، بدأت آثاره تنعكس على القوة الشرائية لليرة السورية، وتخوف أمني من انتشار العنف وسط المجتمع الأهلي. بدأت المرحلة الأقسى تظهرُ ملامحها الآن. تجاوز السوريون الخوف من النظام. عليهم الآن تجاوز الخوف من بعضهم بعضاً. * كاتب سوري