افتتحت الانتخابات التمهيدية للحزب الاشتراكي الفرنسي بهدف تعيين مرشحه لانتخابات الرئاسة المُقررَّة لأيار (مايو) من العام المقبل فصلاً جديداً في الحياة السياسية الفرنسية شكلاً ومحتوى. فهذه الانتخابات التي اشترك في دورتها الأولى اكثر من مليونين ونصف مليون مقترع تتجاوز كونها مجرد تجديد في الآليات الإجرائية لحزب يشكل احد قطبي التداول وأحياناً التساكن في الحكم بين يسارٍ ويمينٍ تاريخيين بأحلافهما وتلويناتهما المتفاوتة. تداولٌ أو تساكن تتشكل ترسيمتهما عبر انتخابات رئاسية وأخرى تشريعية صارا متقاربين زمناً بعد إنقاص الولاية الرئاسية إلى خمس سنوات على مثال الأولى، ليُكوِّنا معاً أداة رئيسة في رسم السياسات العامة وموقع الدولة منها ومن صلتها بالمجتمع المدني في حقبة زمنية محدودة. أولى نقاط التجاوز تتمثل شكلاً في فتح الاقتراع في هذه الانتخابات لغير المنتسبين الى الحزب مقابل توقيع هؤلاء على إعلان التزام بسيط بالقيم العامة لليسار. وهذه المرة الأولى التي يقوم فيها الحزب الاشتراكي الفرنسي بذلك، إذ سبق له أن أجرى تمهيديات في عامي 1995 و2007 لكنها اقتصرت على أعضائه. الأمر الذي يعني بالنسبة الى باحثين سياسيين كثيرين إزالة الحدود بين الحزب وخارجه بما يتضمنه ذلك من اعادة نظر في كيفية فهم العمل الحزبي اليوم في بلدٍ ديموقراطي، وهذا ما لا يعتبره الجميع ايجابياً بذاته. نقدان يُواجهان هذا التجاوز: الأول، انه يُثير إشكالية معنى الانتماء الى حزبٍ تُنزَع من هيئاته وأعضائه الصلاحية الحصرية بتعيين المرشح للموقع الانتدابي - الانتخابي الأول في الدولة الذي هو رئاسة الجمهورية ورُبما مُستقبَلاً الوظائف الانتخابية الاخرى كالنواب وأعضاء المجالس المناطقية والمحلية والبلديات. إذ يعتقد ناقدون له أن التمهيديات المفتوحة تعني تراجعاً امام «ديموقراطية الرأي» بحيث تصبح مهمتها تثبيت أو شرعنة تصنيفات تنتجها المراكز الاستطلاعية والوسائل الاعلامية. الثاني، ان هذه الآلية تُضخِّم البعد الشخصي لدى المرشحين والمعايير المُشَخصَنة لدى الناخبين، كما يقول الكاتب ريمي لوفيفر. وفي هذا، في رأي الناقدين، أمْرَكةٌ للحياة السياسية الفرنسية، مع كل ما يلتصق بها من استخدامٍ للمال ولمجموعات الضغط والمصالح وتضييع معنى الانتخابات كخيارٍ بين سياسات عامة متقابلة وكحاملةٍ افتراضية للتغييرات في المجتمع وتظهيرها بصورة سلمية. لكن هذا النقد الذي قد يتضمن جوانب صحيحة يتجنب خصوصاً النظر إلى هذا التطوير ومغزاه وآفاقه الفرنسية وما يتعداها في سياقه الفعلي. وهو سياقٌ يجعله منهجاً «علاجياً» وتحديثياً في آنٍ معاً. فهو من جهة أولى، يعالج ظاهرة نهاية «المناضلين» في الأحزاب الفرنسية الكلاسيكية وتحول أكثريتهم الساحقة إلى مجرّد أعضاء منتسبين بعيدين عن النشاطية والاستمرارية في نقاش الشأن العام. وهي ظاهرة مختلفة نسبياً عن ظاهرة تناقص العضوية النقابية، ولكنها ترافقها، بما يكشف أن الظاهرتين تملكان جذراً موضوعياً مشتركاً يقوم في تغيير البنى الاقتصادية الاجتماعية وشروط العمل مع صعود العولمة والثورة المعلوماتية، فيما تختلفان لتمايُز طبيعتهما الافتراضية، حيث إن التقليد مستمر على اعتبار هدف الحزب هو السلطة بزعمِ أن الإمساك بها هو الطريق إلى التغيير يساراً أو الحفاظ على استقرار القائم وإصلاحه يميناً. كما يعالج الآثار السلبية المنسوبة إلى سيطرة «المهنية» التكنوقراطية على تشكيل الاجهزة القيادية في الأحزاب والنُخَب التي تفرزها للحكم، وبما يُساهم في تسطيح السياسة ويُقلِّص الفروق في المقاربات والمعالجات بين اليسار واليمين ويؤدي إلى تعميم صورة سلبية للنُخَب السياسية كمجموعات من الباحثين عن ريوع السلطة والظهور الإعلامي، ما أدى في الأدب السياسي الفرنسي إلى سيطرة مصطلح «يسار الكافيار» في وصف النُخَب الاشتراكية. وهي الصورة التي تتلاقى بدورها وبخاصة في فترات الأزمات، مع تلك السلبية لقادة وإدارات الاقتصاد والمؤسسات المالية، لتُشكِّلا معاً الأرض الخصبة لنمو تيارات أقصى اليمين واليسار والشعبويات المختلفة ولنفي صدقية الأنظمة الديموقراطية البرلمانية. إلا أن الأهم يبقى الجانب التحديثي في ما تمثله الانتخابات التمهيدية المفتوحة. فتنظيمها والإعداد لها أديا في الوقت نفسه إلى إعادة الاعتبار الى الحزب كوسيط تأطيري لدفع النقاش وتنشيطه بالشأن العام في مرحلة اهتزاز وفوات التصنيفات التقليدية للطبقات والشرائح الاجتماعية وعلاقاتها. إذ أدّت التحضيرات الحزبية لتمهيديات الانتخابات الرئاسية إلى نقاش وإنجاز برنامج للحكم للأعوام 2012-2017. وهو برنامج مُلزِم لأي مرشح. ما يعني من جهة أن الاقتراع لن يجرى فقط وفقاً للنظرة الفردية إلى شخصية المرشح كما تصنعها استطلاعات الرأي ووسائل الاعلام. كما يعني من جهة ثانية تسهيل تجميع قوى الحزب حول المرشح الذي يختاره في تمهيدياته لأن الفروقات البرنامجية تغدو ضعيفة بين مختلف تياراته بفعل إنجاز البرنامج الملزِم. ويؤدي من جهة ثالثة إلى تسفيه الفكرة القائلة أن انتخاباتٍ تمهيدية مفتوحة لغير الأعضاء تنتقص من دور الحزب. ولكن الأهم طبعاً هو ما تتيحه التمهيديات المفتوحة وهي شائعة بأشكالٍ ودرجات متفاوتة في الولاياتالمتحدة وجرى تطبيقها من تحالف اليسار والوسط في إيطاليا وجزئياً في اليونان، من إعادة نظرٍ بمفهوم الحزب نفسه في زمان العولمة والثورة الرقمية وما بعد انهيار «المعسكر الاشتراكي». وفي ذلك نهاية الحزب الماركسي - اللينيني ك «مثالٍ أعلى» لمفهوم الحزب. ليس الحزب الاشتراكي وحده في هذا المسعى. فحزب «الخضر - أوروبا البيئة» أنجز بدوره انتخابات تمهيدية استخدم فيها التصويت الالكتروني وفتحها للأعضاء كما «للمتعاونين»، أكانوا أشخاصاً طبيعيين أم معنويين. كما أرغم نجاح التمهيديات الاشتراكية، حزب الرئيس ساركوزي نفسه على إعلان تبنيها لانتخابات 2017 على رغم نقده الشديد لها قبل ذلك، بما يُرجِّح أنها ستصبح قريباً قاعدة عامة في فرنسا ويزيد إمكانيات انتشارها اوروبياً. ذلك يعني أيضاً عودة رمزية للسياسة إلى الشعب. وفي زمن «الثورات» العربية رُبّما دفعنا هذا المثال إلى المقارنة والتفكُر بما خصَّ أحزابنا التي تحتضر والأخرى التي لم تنشأ بعد. * كاتب لبناني