رائحة المياه التي تغسل التقاطع الذي يتوسط الطريق ما بين مستديرة شاتيلا ومستديرة الطيونة، والذي يتفرع منه طريق آخر يشكل بداية أوتوستراد هادي نصر الله، تزكم الأنفاس. هي رائحة موت يتكرر. رائحة دماء سالت قبيل منتصف ليل أول من أمس، حين فجر انتحاري نفسه بسيارة مفخخة، فامتزجت مع دماء شاب من الأمن العام اللبناني أنقذ باستشهاده حيوات العشرات ممن كان يستهدفهم التفجير في غير مكان وغير توقيت، أو ربما في مكان قريب. تتعدد المشاهدات حول الانفجار الإرهابي الثاني بعد ثلاثة أيام من انفجار مماثل في ضهر البيدر (20 الجاري)، وتتكرر عملية الاشتباه بالمفجر قبل إتمام مهمته لينجزها منقوصة وفي غير هدفها. فالانتحاري الذي قاد سيارة من نوع مرسيدس 300 قاصداً على ما يبدو هدفاً في ضاحية بيروت الجنوبية أراد تفادي حاجز منيع للجيش اللبناني مثبت على بعد عشرات الأمتار من بداية أوتوستراد هادي نصرالله، فسلك التقاطع بطريقة عكسية ما اضطره إلى الانعطاف بقوة للوصول إلى الجهة الثانية من الطريق، والتي تحاذي أبنية ومقاهي شعبية يقصدها عشرات الشبان والرجال للسمر أو لمتابعة مباريات «المونديال»، وكانت الشاشات مفتوحة في تلك اللحظة على ما تبقى من الوقت الضائع على الشوط الأول من مباراة البرازيل - الكاميرون، وعشاق الفريق الأول ومشجعوه كثر في تلك المحلة. قال أحمد الديراني الذي كان قبل دقيقتين في المكان، أثناء عودته بسيارته إلى منزله لمتابعة الشوط الثاني فيه بعدما تابع الشوط الأول في مقهى بعيد نسبياً عن المنزل، والذي يقع في البناية التي تسبق التقاطع بأمتار قليلة، إنه شاهد سيارة الانتحاري في وسط الطريق بعد المنعطف، وبدا أن صاحبها متوقف لسبب غير مفهوم «وحين تقدمت لسؤاله عن السبب رد بأنه مقطوع وأن مفتاح تشغيل السيارة عالق وانكسر، وطلب مني إعارته مفتاحي لعله ينفع في تشغيل سيارته، ثم عاد وقال إنه «لم يمش الحال»، ولفت الديراني إلى أن الانتحاري كان يتحدث باللهجة السورية وهو تجنب النزول من السيارة. وقال إنه غادر المكان إلى منزله وما كاد يصل إلى بيته حتى دوى الانفجار الذي حطم النوافذ وخلع الأبواب، وأدى إلى عشرات الإصابات الطفيفة والمتوسطة وبث الذعر في قلوب عشرات العائلات التي تقطن في ستة أبنية تحيط بمكان التفجير، واندلعت حرائق في السيارات المتوقفة في مواقف الأبنية وعلى جانب الطريق. لكن الديراني ليس وحده الذي التقى الانتحاري، فبعد توجهه إلى منزله صودف مرور شخصين أحدهما المفتش في الأمن العام عبدالكريم حدرج (20 سنة) ورفيقه علي جابر وكانا يستقلان سيارة أرادت الدخول إلى موقف البناية الذي يقع تماماً إلى يمين السيارة المتوقفة في وسط الطريق، ما أعاق تقدمها إلى الموقف. فنزل حدرج من سيارته وتقدم من الانتحاري سائلاً عن مشكلته وتكررت الإجابة عن عطل فيها، ولما انتبه حدرج إلى أن الانتحاري يتحدث بلهجة سورية وأن وقوفه غير مقنع في وسط الطريق، قال له انزل من السيارة إلى المقهى المجاور ونجري اتصالات حتى نجد من يصلح السيارة لأن وقوفها في هذا الشكل يعيق السير. ويروي جابر الذي يُعالج في المستشفى من إصابات متوسطة أن حدرج غمزه للتوجه إلى حاجز الجيش القريب من المكان والمحاط بعوائق إسمنتية تشبه الجدران، ولما هرول جابر باتجاه الحاجز صارخاً يا وطن، دوى الانفجار واختفى مصير حدرج. حيدر فرحات الذي يقطن في إحدى البنايات المجاورة لمكان الانفجار كان لحظة التفجير يتابع «المونديال» في مقهى على الرصيف يبعد حوالى مئة متر من مكان الانفجار، قال عما جرى: «قذفنا ضغط الانفجار إلى الداخل بين النراجيل والكراسي وخرجنا لنجد سيارات مشتعلة ودخاناً يتصاعد وصراخاً يملأ المكان. سيارتي كانت هناك وفيها عدة دهان ومواد حارقة، الحمدلله لم تتأثر، لكن دماء وأشلاء بشرية التصقت بزجاجها الأمامي وشاهدت أشلاء طارت والتصقت بجدار بناية تقع خلف موقع السيارة المنفجرة، كتل كبيرة من اللحم البشري طارت إلى مسافات عالية ورأس بشري وجد في زاروب يقع بين مبنيين ولا نعرف ما إذا كان للانتحاري أم للشاب حدرج الذي فدى الناس بدمائه وإلا كانت حصلت كارثة لا نعرف حجمها. صاحب مقهى «أبو عساف» قال إن المقهى الذي يوجد فيه حوالى 150 كرسياً لم يكن مشغولاً بالكامل لكن، كان هناك العشرات ممن يتابعون شاشات التلفزة كما يفعلون كل يوم، وتحدث عن أن الشارع في تلك اللحظة كان خالياً من السيارات إلا من قلة عابرة، لكنه لم يشاهد سيارة الانتحاري وهي تنعطف إلى الطريق الذي يؤدي إلى مقهاه، «رأينا كتلاً من النار ودوى الانفجار». ولا تزال بصمات الدماء على الكراسي علماً أن أحداً من رواد المقهى لم يصب بأي أذى كما أكد صاحبه. قوة الانفجار ترددت في ضاحية بيروت الجنوبية وفي بيروت، وسارعت القوى الأمنية من جيش وفرع معلومات واستخبارات ورجال أدلة جنائية إلى المكان وانهمكت طوال الليل وصباح أمس، في رفع الأدلة وإزاحة السيارات المتضررة والمحروقة إلى جانب الطريق. وجرت عملية مسح أولية للأضرار من جانب الهئية العليا للإغاثة، وحضرت فرق بلدية الغبيري مع كل معداتها وغسلت الطرق والأرصفة من أثار الدماء والحريق ورفعت الأنقاض وحطام الزجاج الذي انهمر من نوافذ عشرات المنازل وشرفاتها. وعاد رواد مقهى «أبو عساف» إلى مقهاهم لتفقده ومتابعة ما يجري. وعلق شبان لافتة سوداء كبيرة كتب عليها «فداك نفسي يا حسين». وبلغ عدد السيارات المحطمة 44 سيارة رقمت كلها بعد الكشف عليها، وتناثرت بقايا السيارة المنفجرة في كل مكان، قطعاً صغيرة وكبيرة أما سيارة الشهيد حدرج فأصابها ضرر كبير. وعاين مسرح الانفجار كثرٌ من المسؤولين الأمنيين وحضر مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية القاضي صقر صقر. ووفق التحقيقات الأولية، فإن السيارة التي انفجرت بيعت لشخص سوري ويجرى التأكد من الأوراق التي أبرزها الشاري لمعرفة ما إذا كانت مزورة أم لا. وقدر القاضي صقر زنة المتفجرات بين 30 و40 كيلوغراماً. وقال من موقع الانفجار: «ما زلنا في المرحلة الأولى من التحقيق، ونقوم بتجميع المعلومات والأدلة والجميع يعمل على الأرض، ونتابع التحقيقات والإجراءات، وعندما نتوصل إلى نتائج نعلن عنها». الفتيل لم يشتعل كله وأوضحت مصادر قضائية أن المتفجرات كانت موزعة داخل السيارة وفجرت عبر فتيل صاعق، لكنه لم يشتعل بكامله إثر حصول التفجير. ولفتت المصادر إلى أن الانتحاري حين انعطف بسيارته انعطافاً شديداً انطفأت السيارة لأن هذا النوع من السيارات حين يستخدم مقودها للانعطاف بهذه القوة يتوقف محركها أوتوماتيكياً عن العمل. واستبعدت المصادر «أن يكون التفجير يستهدف حاجز الجيش، إنما مكاناً آخر بدليل محاولة الانتحاري الدخول إلى الضاحية». وذكرت أن سيارة الانتحاري كانت بيعت من جانب المواطن نمر شمعون إلى شخص يدعى زهير عبدالله صليبي في 9 أيار (مايو) الماضي، وأن تاجر السيارات زهير عبدالله سويد والسوري علي حسن ديراني اشتريا السيارة بموجب وكالة بيع من شمعون. وفيما خضع والد حدرج لفحص ال «دي إن آي» لمعرفة مصير ولده، تمهّلت المديرية العامة للأمن العام في نعيه رسمياً. وأعلنت قيادة الجيش - مديرية التوجيه في بيان صدر أمس، «أن الانتحاري كان يقود سيارة نوع «مرسيدس 300 لون أبيض تحمل الرقم 324784/ ج»، وهو فجر نفسه بالقرب من حاجز تابع للجيش في مستديرة الطيونة، ما أسفر عن إصابة عدد من المواطنين بجروح مختلفة، وفقدان مفتش من المديرية العامة للأمن العام، إضافة إلى حصول أضرار مادية جسيمة في الممتلكات». ولفتت إلى أن «السيارة كانت مفخخة بحوالى 25 كلغ من المواد المتفجرة. وتجري التحقيقات بإشراف القضاء المختص». وفيما قطعت الطريق المؤدية من روضة الشهيدين باتجاه الطيونة حتى الانتهاء من إزالة مخلفات الانفجار، استمرت الإجراءات المتخذة حول مقار أمنية وعسكرية، لا سيما حول المحكمة العسكرية ومديرية الأمن العام. وعاش الناس على وقع هاجس السيارات المفخخة، وجرى الاشتباه بعد الظهر بسيارة في منطقة الزهراني (طريق الجنوب) هي شاحنة «بيك آب» كانت تعبر مستديرة الشهيد بلال فحص مسرعة، واصطدمت بسيارتين كانتا متوقفتين في المكان، فأثارت ريبة الموجودين، وبعد تطويقها وإقفال الطريق أمام حركة السيارات، تبين أن الشاحنة خالية من أية مواد متفجرة. المشنوق - بري وأكد وزير الداخلية نهاد المشنوق بعد زيارته رئيس المجلس النيابي نبيه بري في مقره، أن الأولوية الآن في لبنان «للأمن وليس لأي شيء آخر، وأن الجاهزية التي أثبتتها الأجهزة الامنية والجدية التي تتصرف بها عملياً هي التي أفشلت العمليتين الانتحاريتين، سواء في ضهر البيدر أم في الضاحية، لأن من المؤكد أنه لم يكن هذا هو الهدف المحدد للسيارة الأولى ولا للسيارة الثانية. ووعي الناس ومتابعة الأجهزة وتضييق الحركة على الإرهابيين والإرهاب حمت كثيراً من اللبنانيين كان يمكن أن يصيبهم الأذى من الانفجارين». وعزى «أهل الشهيد في الأمن العام الذي استشهد وهو يدافع عن أهله وعن كل اللبنانيين، وأبلغني الرئيس بري أنه اتصل بأهله وعزاهم أيضاً».