بالفم الملآن، ابتداء كتاب السيناريو الأميركيين المتحدين إضراباً طويلاً عن العمل مسألة لا ناقة لنا فيها ولا جمل. وقد يكون الخبر ساراً. فهستيريا السيناريو، وغاياته، ونحوه وصرفه، تضطلع بدور عصبي فلسفي واكتتابي سينمائي وخلاب إدماني. والتأمل في الخبر يحمل على الرجوع في الرأي. فالإضراب هذا، مترتباته معقدة والحق يقال. فطائفة حرفة كتّاب اميركا تعد العدة لإضراب يطول عشرة أشهر، أولاً. وليس في أدراج المسلسلات الأميركية التلفزيونية احتياط كبير، ثانياً. وموضوع الاضراب الطويل هو حقوق الكتاب والبث والتوزيع التي يطالب بها الكتّاب الشبكات، ثالثاً. وهذه، مجمتعة، هي الحياة بقضها وقضيضها. ولا نغفل عن ان ما يقطع على نحو قطع الأنابيب عن مريض في غيبوبة عميقة، إنما هو حنفية صنبور الماء، والقصص والحكايات، والوقت، وهي انابيب المخيلات ومراعيها. ولا يعدم هذا بعث قلق صاعق في القوة العظمى: قلق سياسي وإيديولوجي وأخلاقي ومالي. وهذه مرادفات بعضها بعضاً. ولا يحسبن أحد ان الكاتب يزدري المسلسلات باسم هوميروس ورابليه وجويس وثيربانتيس ويورغيس وجيل لوروا. فمسلسل"سوبرانو"على سبيل المثل، عمل فيلمي جريء وموسيقي، طريف ودرامي، على نحو يليق ببلزاك وميلفيل. ولا نغفل عن خواء وفاض ولايات أوروبا المغرقة في إعلان أمارات التعبد كلها من كاتب سيناريو واحد يتجرأ على الغمز والبداهة اللذين يقع عليهما المشاهد من آل"سوبرانو"وخروجهم المتفاخم عن الأدب المقبول. فمثل كاتب السيناريو هذا لن يجاوز، ولن يجيزه البابا ولا الحاخام ولا الإمام ولا الحكومة ولا العمدة ولا الأمهات ولا أسر التلاميذ ولا الأساتذة. والأنكى ان كاتب سيناريو مثل هذا لن يحصل على سمة المنتجين، ولا على دفتر التكلفة المقدرة، ولا على إجازة قائسي المسلسلات بالأمتار. وهؤلاء يخاطبهم الاضراب. ولا يرى المرء حلاً لتدلية خراطيم الحكايات الأميركية، أو بلى، ثمة حل هو تلفزيون الواقع. فهذا سلاح مضاد للاضراب مثالي، وهو يشغل الجهاز العصبي المركزي، والوقت. وسيناريو تلفزيون الواقع هو عدم السيناريو. فليس من داع لافتعال قصص، وسنونوة واحدة تملأ ساعات الذروة. وإذا أعملنا الذاكرة قليلاً، انتبهنا الى ان ظهور تلفزيون الواقع إنما يعود الى اضراب كتّاب السيناريو الطويل في 1998. فتداركت شبكة"ان بي سي"الأمر، وعمدت الى عرض صور أطباء حقيقيين يعالجون مرضى حقيقيين ما أضاء نور شاشة صغيرة. وأدى طغيان مشهد المراويل البيض وظيفة جمالية غثة وممرضة واستولى على الأبصار استيلاء ممعناً ولا يخلو من الفحش. وإلى هذا قامت أصوات أجهزة مراقبة القلب الرتيبة، بيب- بيب- بييييب، محل"الصوت"الذي يوكل عليه مصاحبة الصورة، وتوقيع المشاهد وتقطيع مرورها. ولعل سلطان تلفزيون الواقع هو تمام السلطان، أو التاريخ على صورة البث المباشر والحي. ويتقدم السلطان الطاغية على صيغ تلفزيون الواقع المعروفة: فلا حاجة الى سيناريو، ولا الى مكان مغلق جناح السكن او المزرعة او الجزيرة. ففضاء تلفزيون واقعه طلق. ومسارحه الموانئ والمدارج والساحات والبلدان والسماء والبحار واليخوت، أي السياسة في ملاعب من غير خيم. واللحظة تطرد الأخرى. فلا حاجة الى صانعي قصص وحكايات, ولا الى نقابيين وكتّاب. فهؤلاء يقصمون. وصور الإضرابات الفرنسية والمضربين ملء الشاشات. فلا تشبّه الحكايات على الناس، ولا توهمهم الأوهام. وبالأمس كان الرئيس الفرنسي يحلق مجاناً، ويعد الوعود من غير حساب. ومالئ الشاشات وشاغل المشاهد لا يدري اليوم كيف يتخفى في ثوبه. وهذا طالع أمل. فرنسيس مارماند، "لوموند" الفرنسية، 22/11/2007