في كل سنة، وتحديداً في مثل هذا الوقت "التشريني"، تستيقظ صورة المُبدع الجنوبي تيسير سبول، في الوجدانيين العربي والأردني. هذا الروائي والشاعر الذي زلزل الساحة الثقافية الأردنية ضحى الخامس عشر من تشرين الثاني نوفمبر عام 1973 حين وجه فوهة المسدس الى رأسه، ومات منتحراً. وحينما تستيقظ الذاكرة ناهضة بحضور تيسير سبول، فإن هذا النهوض يؤكد كل سنة مكانته الابداعية المتميزة، وأهمية تجربته الكتابية، وريادته المبكرة في الرواية الأردنية الحديثة والتأسيس لها. ولهذا سيظل مؤرخ الحركة الابداعية الأردنية يعتبر أن تجربة سبول الكتابية والحياتية كانت أحد أهم المفاصل التاريخية في الأدب الأردني. وتأتي أهمية تجربة سبول من الوضع الذي كانت تعيشه الثقافة الأردنية والعربية في مطلع السبعينات من القرن المنصرم، كان الراحل سبول من الجيل العربي الذي دمرته الخسارة العربية الجغرافية التي خلفتها حرب حزيران يونيو 1967. هذا الجيل الذي عاش على حلم الخطابات الرنانة والمتخمة بضجيج تحرير كل التراب الفلسطيني، كان عليه أن يكون أعزل من كل الأحلام عشية الاعلان عن وقف اطلاق النار، بعد أن قضمت اسرائيل في خمسة أيام أو أقل الضفة الغربية والجولان وسيناء. وكان من الطبيعي غداة تبدد الحلم القومي، أن يقف سبول وكل من جايله ابداعياً في تلك المرحلة المرة، في المنطقة الحرجة من الوعي، أو لنقل في لحظة تعرية الوعي الزائف الذي ظل يغذي منطقة الوعي الكتابي بامكان النصر والتحرير وتحقيق الوحدة العربية الشاملة من المحيط الى الخليج. لحظة العُري هذه قادت الأديب الراحل تيسير سبول هو ومن جايله من الكتاب العرب في تلك المرحلة، الى الذهاب الى مساحة عدمية، كانت تتغلف بسوداوية فاتمة. وليس بغريب على الاطلاق أن يذهب الجيل الأدبي والابداعي العربي في تلك المرحلة، الى بئر الوجودية السارترية، التي كانت تطفح بغثيان"انطوان روكنتان"بطل رواية"الغثيان"لسارتر. وب"غريب"كامو، وب"اللامنتمي"لكولن ويلسن وب"جحيم"باربوس. ومن يعاود قراءة المُنجز الكتابي الخاص بتجربة الراحل تيسير سبول، والرموز الابداعية العربية في تلك المرحلة لا بد من أن يلمس تلك العدمية التي كانت تُهيمن على المسارات الابداعية العربية وروحها. تيسير سبول الذي توّجه مُدرس اللغة العربية في المرحلة الدراسية الابتدائية كصاحب أفضل موضوع إنشاء في المدرسة، كان يستعجل مساحة العمر المتاحة له كي ينهل من كل هذه القراءات، ويُسرع في تجربته الحياتية القصيرة ليذهب الى أبعد مدى في دراسة الفكر الاسلامي والعربي والعالمي، وليطلع على الأفكار الثورية الرائجة في تلك المرحلة، ويذهب في اللذاذات الروحية التي تمنحه اياها الكتابة. لكن قارئ أعمال تيسير سبول الابداعية، لا سيما مجموعته الشعرية"احزان صحراوية"وروايته"أنت منذ اليوم"لا بد من أن يتلمس تلك النكهة السوداء والمريرة في الحبر الابداعي لتيسير سبول، لا بد له أيضاً من أن يُمسك بروح المرارة الطافحة من هذه الكتابة. تلك المرارة التي انتقلت من الحالة الكتابية، الى الحالة الحياتية ذاتها التي تخص الراحل تيسير سبول. ولعل المأساة حقيقة تكمن هنا، وتحديداً في تلك الحالة التي يتحول فيها الهم الجماعي الى هم شخصي. لعل الصدق في التجربة الحياتية والكتابية التي عاشها تيسير سبول، هو ما جعله يصّوب في ذلك الضحى التشريني فوهة المسدس نحو رأسه ويطلق النار. ربما هو الصدق ذاته الذي يجعلنا في كل سنة نحتفي بذكرى هذا الرجل الجنوبي الذي باغت رتابة أيامنا بتلك الطلقة التي ما زالت تمتلك هذا الصوت المدوي في ذاكرتنا الثقافة.