مرت في قبل أيام الذكرى التاسعة والعشرون لانتحار الكاتب الأردني تيسير سبول 1939 1973 الذي وضع حداً لحياته بعد فترة قصيرة من توقف الأعمال الحربية عام 1973، إذ أيقن أن "وشم الدولة القومية الكبيرة" التي حلم بها لن يرسم أبداً. وهكذا تفاعلت في روحه هزيمة حزيران يونيو 1967، ولم يستطع الانتصار المحدود الذي حققه العرب في حرب تشرين على إسرائيل أن يمحو عار حزيران بعدما انقلب الانتصار العسكري إلى تباشير هزيمة سياسية أخرى مدوية، فكان أن وضع الكاتب الموهوب حداً لحياته القصيرة التي لم تمكنه من إنجاز الكثير مما كان يحلم بكتابته في الشعر والرواية. لكن تيسير سبول تحول بعد انتحاره إلى أيقونة، إلى مثال للكاتب العربي المرهف الذي لم يحتمل الانهيار الذي أصاب العرب بعد هزيمة حزيران، فغالب الرغبة في الانتحار سنة بعد سنة، ولكنه عانق الموت في اللحظة التي أيقن فيها أن لا أمل في النهضة بعد السقوط. في هذا السياق، من تقاطع السياسة مع الثقافة، نتذكره كل سنة ويتذكر أصدقاء تيسير سبول شمائل كاتب طموح غاب عنهم ولم يكن تعدى الرابعة والثلاثين من العمر. وفي هذا السياق أيضاً يغيب عنّا حضور سبول الروائي ويمتزج أدبه بانتحاره، وإنجازه الثقافي بصورته الشفافة التي يرسمها أصدقاؤه. لكن أهمية الرجل لا تكمن في انتحاره، أو في المعاني السياسية والثقافية التي تحف بهذا الانتحار أو في التداعيات التي تثيرها ذكراه، بل في ما أبقاه من آثار كتابية تتراوح بين الشعر والرواية والقصة القصيرة والمقالات الأدبية والبرامج الإذاعية. ومع أن الآثار الكتابية التي تركها سبول لا تتعدى مجلداً واحداً ضم قصصه القصيرة التي تعد على أصابع اليد الواحدة، ومجموعة شعرية يتيمة في عنوان "أحزان صحراوية"، إضافة الى روايته الشهيرة "أنت منذ اليوم" التي فازت بالجائزة الأولى لجريدة "النهار" للرواية عام 1968 مناصفة مع رواية أمين شنار "الكابوس"، إلا أنني أتوقف دائماً عند روايته "أنت منذ اليوم" التي تمثل بالنسبة إلي أبرز إنجازه الثقافي. فهي تقدم إضاءة ساطعة على حادثة انتحاره، لأن بطلها "عربي" رجل يتقدم باتجاه الانتحار الجسدي، وكذلك المعنوي، بخطى ثابتة مقدامة. كما أن الرواية تعلن عن يأسها الشامل وتذكر أسباب هذا اليأس وترسم صورة تفصيلية عن هزيمة العرب المدوية عام 1967. وهي إضافة إلى كونها شهادة وجودية على الواقع العربي بعد حزيران 1967، وقراءة للأسباب التاريخية للهزيمة على صورة رواية، عمل أدبي مبتكر يخطو بالرواية العربية في ذلك الحين إلى أفق آخر تتحلل فيه الحبكة التقليدية وتأخذ الشخصيات الروائية أدواراً جديدة، ويصبح العمل الروائي نوعاً من البحث والدراسة للتاريخ والشخصيات، ويتفكك الزمن الخطي، وتفسر صورة الحطام الشامل، في فصول الرواية، الهزيمة التي مني بها العرب ذات صيف في القرن الماضي. ومن هنا فإن تيسير سبول يغامر بكتابة عمل روائي يأخذ صورة السديم الذي خلفته الحرب عام 1967 ويتشكل مزقاً تعبيرية تحاول أن تفسر بالتاريخ القومي والوقائع اليومية والسيكولوجية الفردية: لماذا هزمنا في هذه الحرب؟ إن سبول يلج بوابة التعبير الروائي الجديد من أكثر السبل التصاقاً بجوهر هذا التعبير: أي من العماء الذي يولده تاريخنا الحديث، من الانهيار والتصدع والتفسخ والشعور بهول الهزيمة. وهو لذلك لا يستشرف المستقبل لأنه لا يراه بل يرى الماضي فقط، الماضي الذي هيأ لهذا الحاضر المهزوم. لقد كتب كلام كثير على رواية "أنت منذ اليوم"، وقرئت وقلبت على وجوهها، فربطت بظاهرة انتحاره، ووصفت بأنها تدشن ظهور النوع الروائي، على صورته الحقيقية، في الأردن، كما وضعت في سياق تطور الرواية العربية في الستينات لأنها تنتظم في مسار محاولة جيل الستينات التخلص من ثقل عمارة محفوظ الروائية" والأهم من ذلك كله أنها تنظر إلى التاريخ بصفته سلسلة من الانقطاعات والتوترات على عكس الرواية المحفوظية التي ترى التاريخ سلسلة مترابطة الحلقات أو سلماً حلزونياً صاعداً إلى أعلى لا يعوقه عائق. بالمعنى السابق اكتسبت رواية تيسير سبول اليتيمة، التي جددت على مستوى الشكل والرؤية، مكانتها في سلسلة الإبداع الروائي العربي في القرن الماضي، وظل حضورها ساطعاً لا في تاريخ الكتابة الروائية في الأردن بل امتد هذا الحضور إلى تاريخ الكتابة الروائية العربية بعامة التي كانت تمر بمفصل حاسم حين كتب سبول "أنت منذ اليوم". ولم يكن سبول بعيداً مما يجيش في أعماق كتاب جيله، في تلك الحقبة الحاسمة من تاريخ العرب وتاريخ السرد العربي المعاصر، من تساؤلات حول معنى الكتابة ووظيفتها ودور الكاتب كراءٍ لا مجرد ناقل لما يراه من أحداث حوله، وعما يتصل كذلك بأفق تحولات الرواية العربية التي بلغت مع محفوظ ذروتها الكلاسيكية. ولهذه الأسباب استطاعت روايته الوحيدة أن تحقق كل هذا الحضور على رغم مرور أربعة وثلاثين عاماً على كتابتها، واستطاع اسمه أن يصمد طوال هذه السنوات لا عبر تذكر انتحاره النبيل فقط بل عبر عمله الروائي اليتيم، الذي قد لا يكون أثر في مسار الرواية العربية بعامة. فنحن لا نستطيع الجزم بخصوص تأثير رواية سبول في الشكل الروائي العربي الجديد لسببين: الأول هو أن حركة التحديث في الرواية العربية كانت بدأت في منتصف الستينات في عمل نجيب محفوظ "ثرثرة فوق النيل"، وفي أعمال جماعة غاليري 68، وفي "تلك الرائحة" لصنع الله ابراهيم. وبهذا المعنى، فإن الروحية العامة لإنتاج الروائيين الجدد في الستينات، وخصوصاً بعد الهزيمة، كانت تظلل عمل سبول وغيره من الروائيين العرب. لقد انفجر قمقم الشكل الروائي وكانت "أنت منذ اليوم" من الأعمال الروائية الخارجة من هذا القمقم. أما السبب الثاني فيتمثل في أننا لا نعلم على وجه الدقة هل كان ممكناً لرواية جديدة تفوز بجائزة جريدة "النهار" للرواية عام 1968 أن تحدث أثراً فعلياً في تطوير شكل الرواية العربية في السنوات التالية! بغض النظر عن التحليل السابق، فقد وضع تيسير سبول الأساس للكتابة الروائية الحديثة في الأردن التي كانت قبله كتابة تقليدية وسرداً خطياً وحكايات أقرب إلى السذاجة في أعمال كتاب لم يتمثلوا معنى الكتابة الروائية. لكن هذا التأثير تأخر إلى بداية ثمانينات القرن الماضي عندما ظهر جيل جديد من الروائيين الأردنيين الذين وجدوا في مثال تيسير سبول ملهماً أساسياً لهم في الكتابة الروائية. بهذا المعنى فإن الراحل مؤنس الرزاز يبدأ عمله الروائي الأول "أحياء في البحر الميت" 1982 باستلهام "أنت منذ اليوم" وجعل تيسير سبول واحداً من شخصياته الروائية التي يعود إلى ذكرها في الرواية، ويقيم في الوقت نفسه مقارنة بين غاية "أنت منذ اليوم" وأطروحتها السياسية وعمله الروائي الذي يكتبه "أحياء في البحر الميت". بصورة مواربة أيضاً تدخل "أنت منذ اليوم" عنصراً مكوناً، سرياً عميقاً، في عمل إلياس فركوح الروائي، وفي أعمال كتاب رواية آخرين في الأردن، حيث تمثل رواية سبول خيطاً سرياً في الوعي الروائي الجديد الذي بدأ حضوره في كتابات الروائيين الأردنيين منذ بداية ثمانينات القرن الماضي. من هنا يبدو استذكار تيسير سبول والتحضير للذكرى الثلاثين لغيابه، وضرورة تكريمه أردنياً وعربياً، نابعاً من أهمية منجزه الروائي وفرادة "أنت منذ اليوم" بصفتها أحد من الأعمال الأساسية في الرواية العربية الجديدة التي بدأت حضورها الساطع في منتصف الستينات.