طرح الكاتب الايطالي أمبرتو إيكو قبل أشهر سؤالاً مهماً في إحدى محاضراته، وهو:"لماذا نقرأ"؟ وفي إجابته قال باقتضاب:"نحن نقرأ لأننا نستمتع بما نقرأ. ولكن الأهم هو أننا نشعر بأن حياتنا ليست مرضية، وبأننا نبحث في القراءة أحياناً عن أنفسنا". ربما يختصر إيكو كثيراً من القضايا الكبرى في كلمات قليلة. فحياتنا التي لا تعجبنا، يتم البحث عن بديل لها في القراءة، ما يعني أن الكتابة تنطوي على إعادة إنتاج الحياة في شكل آخر لم نألفه ولم نختبره ولم نراكم أي تجربة عنه. والكتابة في هذا المعنى ليست مجرد رسم الصورة القائمة أو المخزونة، بل هي أيضاً ما يتمكن المخيال الإبداعي من ابتكاره وتشكيله. إن عملية البحث عن أنفسنا في القراءة، تعني غياب المعنى المحدد، أو حتى التقريبي للحياة، كما نراها ونختبرها ونعايشها. فهل تتمكن الكتابة من تحقيق هذا المعنى في شكل أو آخر؟ في الإجابة تقفز أسئلة أخرى أكثر خصوصية في ما يتعلق بمفهوم الكتابة، وأهميتها، وضرورتها في الحياة. الكتابة في أحد جوانبها - كما نفهم من أمبرتو إيكو - تعبير عن ذات جمعية، وإن بدت تجربة فردية في مظهرها. ذلك أن الذات هي الماهية، والشخص هو الهوية، كما يقول جون جوزيف في كتابه الأخير"اللغة والهوية". والهوية الشخصية ليست نتاج الماهية، بمقدار ما هي نتاج الذات الجمعية والقومية والجغرافيا الثقافية والدين واللغة. وإذا كانت اللغة في أحد جوانبها تعبيراً عن الذات، فإنها أيضاً تعبير عن الشخص، الذي هو الهوية، والتي هي ليست فردية على الإطلاق. الكتابة في هذا المعنى تحددها اللغة، والشخص، والذات. وهذه العناصر الثلاثة كلها ترتبط بالهوية بعلائق جدلية. فاللغة التي تعد أحد مكونات الهوية، نجدها نتاج الهوية أيضاً. فإذا كنت أميركياً فإنك بالضرورة ستتحدث الإنكليزية - الأميركية، لا النيوزلندية أو الأسترالية. وإذا كنت تتحدث الإنكليزية - الأميركية، فأنت بالضرورة تنتمي إلى جماعة محددة. هذا يعني أن اللاوعي الجمعي مرتبط بالهوية، وأن الكتابة مرتبطة باللاوعي الجمعي، أي بالهوية. لكي تكون كاتباً عربياً فإنك تكتب باللغة العربية، لكنّ اللغة وحدها ليست قادرة على تحديد هوية الكتابة، فقد تكتب بالعربية عن"الهومليس"مثلاً، وهو ما يعني أن خبراتك ليست عربية، ورؤيتك للحياة ليست رؤية عربية. فليس من المعقول أن تكتب عن"الهومليس"وأنت تعاني استبداد السلطة العربية، وغياب الحريات، والاحتلالات الأجنبية للأرض العربية، وتعاني تجريد المواطن العربي من أبسط حقوقه البشرية. والكتابة لغة. ولا يمكن أي موضوع أو فكرة أن تصبح أدباً ما لم تعالجها اللغة. وهو ما يعني أن الكتابة في جوهرها عملية لغوية في المقام الأول. فلا هاملت ولا مكبث أو عطيل أو الملك لير، كانوا قادرين على الحضور إلا في اللغة. وقد كان الحضور اللغوي أحياناً أكثر سطوعاً من الحضور الموضوعي. أي أن هذه الشخصيات تشكل هويات أكثر وضوحاً من كثير من الشخصيات الحقيقية، والسبب هو اللغة. ونعود إلى السؤال: لماذا نقرأ؟ في هذه الحال يمكن القول إن أمبرتو إيكو كان واضحاً وهو يحدد المتعة. لكنه لم يكن واضحاً تماماً في الإشارة إلى عدم الرضا عن حياتنا، والبحث عن معنى ذواتنا. فالبحث عن معنى الذات والحياة، ليس مرتبطاً فقط بالقراءة، كما أن القراءة وحدها لا تقدم إجابات واضحة ومحددة. ربما تنجح القراءة في قيادة العقل إلى طريق المعرفة، لكنها معرفة ناقصة، تماماً مثل أي معرفة تتعين في حقل آخر غير العلوم الرياضية. القراءة عملية كتابة. وعملية الكتابة هي في المقام الأول تعبير عن الذات وعن الشخص. والكتابة مدفوعة بالأسئلة الجوهرية والأزلية والراهنة، وحقل يمكن الإنسان أن يلعب فيه، وأن يكتشف ما هو متاح أو ممكن. والقراءة في بحثها إنما تؤكد ماهية صاحبها وهويته. والكلام عن الرغبة الكبرى في الاطلاع على تجارب الشعوب الأخرى في الكتابة، يعني الاطلاع على هويات أخرى مغايرة، سعياً الى معرفة الهوية الشخصية والقومية. فأنت لا تعرف الذات من دون معرفة الآخر. هكذا تكون القراءة في العمق بحثاً محموماً عن الهوية، تماماً كالكتابة. وهذا لا يعني التخلي عن المتعة. لكنّ المتعة ليست مجردة. فالمتعة لا تتأتى في الجماليات الكتابية فحسب، بل وفي جماليات التأويل والذهاب إلى ما هو أبعد من حدود النص... أي في المعرفة. كلنا يسأل حتى اليوم عما فعلته ميديا مثلاً؟ لماذا؟ وهل الحماقة البشرية وحدها قادرة على قيادة المرء إلى ارتكاب مثل تلك الجريمة؟ وهل غيرة عطيل هي السبب حقاً في قتل"ديدمونة"؟ ربما يمكن القول إن ما يحدث في هذه الحالات، إنما هو نتيجة عطب أصاب الماهية أو الهوية. ففي حال ميديا هي الماهية، وفي حال عطيل هي الهوية. ولكن هذا لا يشكل قانوناً عاماً مصمتاً لا يمكن الخروج عليه، ما يعني أن الكتابة أكثر تعقيداً مما نظن، وأكثر عمقاً مما قد نصل إليه في محاولة لاكتشاف أسرارها وتجلياتها. فلا يمكن الجزم بأن شكسبير كان يعاني عطباً في الماهية أو في الهاوية، ولكن، أيضاً لا يمكن الجزم بأنه لم يكن في اللاوعي قد خبر مسألة البحث عن الذات أو الهوية. يقول فلوبير إنه هو نفسه إيما بوفاري! إن التأمل في هذا التصريح الخطير، يتيح لنا إمكان الولوج إلى أعماق أدنى في عملية الكتابة. فهل كان فلوبير يعاني مشكلة البحث عن الذات؟ في هذه الحال، فإن ما يقوله أمبرتو إيكو عن القارئ، يصح تماماً عن الكاتب، وهو ما جعلنا نقول من قبل: إن القراءة عملية كتابة أخرى. ولكن، لماذا حوّل فلوبير نفسه إلى امرأة؟ ألم يكن قادراً على البحث عن الذات في شخصية رجل؟ إن التأمل في هذه الحال يعطينا فرصة القول إن إيما بوفاري جمعت في شخصيتها الذات والشخص... الماهية والهوية. فالماهية هي ما يتناقله النقاد والقراء عن الحماقة البشرية في الذات الإنسانية، أياً كانت هويتها. لكنّ إيما بوفاري امرأة فرنسية، ما يعني أننا أمام هوية واضحة ومحددة. وهنا لا يصح القول بالحماقة البشرية، ما دامت إيما جزءاً من ذات كبرى، أو ممثلة للهوية القومية. لماذا نقرأ؟ ربما تكون الأجوبة كلها صحيحة، وربما تكون ناقصة. لكننا سنظل نقرأ، ما دام الناس يبحثون عن شيء ما في ذواتهم، أو في حياتهم.