بعد تطور الأوضاع الدولية والصراعات الاقليمية في منطقة الشرق الأوسط في شكل جعل لاسرائيل دوراً هامشياً فيها، عادت الأخيرة وربطت نفسها بقاطرة ما يسمى في الغرب"الحرب ضد الارهاب"، وتمكنت من استخدام آلتها العسكرية الباهظة الكلفة للتنكيل بالشعبين الفلسطيني واللبناني، ولتدمير بنيتهما التحتية، وما تمكن لبنان من بنائه في العقد الأخير بعد حروب طويلة عادت اسرائيل ودمرته في أيام معدودة. وكان لبنان بالنسبة الى اسرائيل عقدة من العقد الكبيرة. فلبنان الدولة العربية الوحيدة التي تفخر بأن يموقراطيتها تلبي كل الأسس التي تقوم عليها ديموقراطيات الغرب من حيث الانتخابات الدورية، وتوازن السلطات، والتعددية السياسية، وتداول الحكم حيث ان رؤساءه يتغيرون ويتنقلون من مواقعهم قبل موتهم، ومن دون أن يورثوا أبناءهم السلطة. وصحيح أن انتقال السلطة ليس دائماً سهلاً، أو متفقاً عليه بين كل الفئات والاحزاب، ولكن لبنان بكل المعايير دولة ديموقراطية. من ناحية أخرى، فإن لبنان الذي شهد حرباً استمرت أكثر من عقد ونصف العقد، تمكن على رغم الدمار والانهيار من الحفاظ على ميزاته الاساسية التنافسية. فقد تمكنت قطاعات الاعلام والنشر، وبعض الصناعات الغذائية، والزراعة، وغيرها، من الاستمرار وأثبت الناس إبان تلك الحرب ان قدرتهم على توفير الخدمات الاساسية في غياب المؤسسات الرسمية ممكن. ووجدوا وسط عذاباتهم اليومية القدرة على توليد الكهرباء قطرياً وداخل كل مبنى، وحتى داخل كل بيت وأمنوا الطعام والماء وغيرها من مستلزمات الحياة اليومية. ولو توقف الأمر في لبنان على الحرب الداخلية لقلنا ان ما صنعه الناس يرقى الى الانجاز الضخم ولكن ليس الى درجة المعجزة. لكن لبنان تعرض ثلاث مرات لاجتياحات عسكرية اسرائيلية، سببت كثيراً من الخراب والدمار وسفك الدماء. وكما قال رئيس وزراء لبنان، فؤاد السنيورة، حين القى بيانه يوم السبت الماضي أن"لبنان سيبقى"، فقد صدق، ان لبنان"يبقى". وهذه هي براعة شعبه الذكي المبدع. ولو أن لبنان مثلاً حافظ على هدوئه وأمنه طوال السنوات 1975 - 1990، أي بعد هزة النفط الأولى في نهاية عام 1973، لكان اليوم يضاهي بكل بساطة اقتصادات هونغ كونغ، وسنغافورة، والإمارات العربية المتحدة، ولكان في وضع افضل بكثير من الاقتصاد الاسرائيلي. ولبنان يدفع باستمرار ثمن تميزه وانفتاحه وبراعته في تقديم الخدمات، ما جعله باستمرار هشاً في الوقت الذي يظهر قوة اقتصادية. وفي غمرة الصراع الداخلي، فإن لبنان لم يتمكن من بناء مؤسساته المركزية القوية، بل تركها عرضة للصراعات الطائفية والتنافسات في ما بينها. ولذلك، بقي لبنان باستمرار عرضة للهزات والتقلبات. ورأينا لبنان كحكومة يعاني الأمرّين من ارتفاع الدين الخارجي الذي تجاوز الاربعين بمليون دولار، وحكومته مسؤولة الآن عن اعادة بناء ما يهدمه العدوان الاسرائيلي الغاشم. أما بالنسبة الى الحرب الدائرة، فقد أدت حتى الآن الى رفع أسعار النفط حوالى اربعة دولارات للبرميل الخام، وهدمت على الأقل ما يساوي 5 بلايين دولار من بنى لبنان التحتية. وتسببت في ضياع موسم السياحة، والتصدير، وهدت أمن الناس وأدت الى كثير من الهجرة القسرية من الجنوب الى الوسط والشمال. صحيح أن هذه التكاليف ليست سهلة التعويض، لكن للحروب دائماً نتائجها. وقد استطاع لبنان سابقاً أن يبقى، وهو يبقى اذا اختارت اسرائيل أن تبادل الأسرى، وانتهت هذه الأزمة، فإن على لبنان أن يعيد بناء مؤسساته ويقويها، ويفرض سلطة القانون ويشيع الأمن والأمان في ربوعه. وأي هدف غير هذا، سيبقي لبنان دائماً وأبداً عرضة للتقلبات، وتتحول ديموقراطيته الى حالة من الفوضى. إن رد الفعل الاسرائيلي لئيم بكل المقاييس، وهو ينطوي على روح انتقامية عالية، خشية من نجاح لبنان. ولكن لبنان لن يمكن اسرائيل من استثمار تفوقها العسكري، وسيبقى دائماً شوكة في خاصرتها في السلم وفي الحرب. * خبير اقتصادي،"البصيرة للاستشارات"