تمر الأمم والمجتمعات والحضارات في مرحلة عبور نحو مرحلة جديدة قائمة على المعرفة والاتصالات والمعلوماتية، ويواجه الخطاب الإسلامي أيضاً المرحلة الانتقالية هذه على نحو لا يختلف كثيراً عن السياق الاجتماعي والحضاري العام، ويمكن اليوم ملاحظة حالة جديدة في العمل الإسلامي والخطاب الإسلامي تحتاج إلى فهم جديد مختلف عن السابق، وربما يكون من أهم مؤشراتها الفرق الكبير بين أجيال العمل الإسلامي، فالجيل الذي كانت تنتظمه جماعات ومدارس وتيارات يبدو اليوم في مرحلة أفول لتحل مكانه أجيال لا تنتمي إلى مدرسة أو جماعة، ولكنها تنتمي إلى المجتمع بعامة. ثمة إقبال كبير غير مسبوق على التدين والمساجد والالتزام الديني في اللباس والمعاملات، والمشاركة في المؤسسات الإسلامية الاقتصادية كالمصارف وشركات التأمين، ولكنه إقبال لا تؤطره حركة علمية أو جماعة، وتبدو الجماعات الإسلامية التي كانت سائدة في مرحلة سابقة في حالة إفلاس وعجز. المشهد يذكر بمشهد سابق عندما تقدمت الجماعات الإسلامية إلى الساحة الإسلامية وانتزعتها من مشايخ وقادة كانوا هم أيضاً في مرحلة من الانحسار، واليوم تبدو الجماهير التي أولت الثقة للحركات الإسلامية في حالة من الحيرة والارتباك، فهي لم تتحرك بهذه الثقة باتجاه إعادة تنظيم المجتمعات وفق احتياجاتها وأولوياتها وخياراتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ولكنها بقيت في مرحلة من السلبية والتردد والغياب والرومانسية. فقد تقدمت الحركة الإسلامية إلى واجهة المشهد السياسي في المرحلة التي كانت الدولة تغير من طبيعتها، وتتخلى عن كثير من الأدوار والخدمات التي كانت تقدمها للمواطنين في مجالات التعليم والصحة والتموين والاتصالات والتسعير والضمان الاجتماعي والتوظيف، وإدارة الموارد، وتوفير الماء والكهرباء، وكانت فرصة للحركة الجديدة الواعدة أن تحرك المجتمع باتجاه احتياجاته وأولوياته وتحديات المرحلة الجديدة والتخلص من الفساد والآفات التي رافقت المرحلة السابقة. وللمشهد الجديد حسناته وسيئاته بالطبع، ولكن المؤكد أنه بحاجة إلى تفكير جديد يوصل إلى أدوات فهم جديدة، ويطرح أسئلة جديدة مختلفة، مثل هل يتحول"الإسلام"إلى مكون لكل التيارات والاتجاهات والطبقات تتشارك فيه ولا يقدم برنامجاً سياسياً وثقافياً واجتماعياً خاصاً به، بمعنى هل يختفى الاتجاه الإسلامي كتيار مستقل، لنجد مثلاً تشكيلات يسارية إسلامية، وليبرالية إسلامية، وعلمانية إسلامية، وقومية إسلامية، ومحافظة إسلامية، لتتحول الإسلامية إلى مكون مشترك، أو تفقد خصوصيتها وتنتهي كظاهرة سياسية وإطار للتجمع والعمل. ربما تكون هناك حالة جديدة لم نستوعبها بعد، وربما تكون ثمة اتجاهات وأفكار لم نعلم بها بعد، والسؤال الذي يلح اليوم على المشتغلين بالخطاب الإسلامي هو هل نتحدث بلغة لم يعد يفهمها أحد، أو هل يتحدث الناس بلغة لم نعد نفهمها؟ فقد تبدت في هذه التحولات أولويات واحتياجات جديدة غيّرت كثيراً من واجبات الجهود الإصلاحية وطبيعتها، وظهر أيضاً كثير من الإنجازات والمكاسب التي تحققت والتي يجب إدراكها ومراجعة العمل في مجالها لتوجية الجهود والموارد نحو ما لم يتحقّق بعد. وكما كانت"النسبية"أساس التقدم العلمي الحديث الذي غيّر من مسار الحياة والموارد وطبيعة الدول والمجتمعات وعلاقاتها، فإنها"النسبية"يفترض أن تكون أساس تحولات الخطاب الإسلامي أيضاً. فالنسبية وإن بدأت نظرية علمية فيزيائية أُطلقت عام 1905 على يد عالم الفيزياء المشهور اينشتاين، لكنها اليوم فلسفة وقاعدة عامة تمتد إلى كل شؤون العلم والفكر والحياة تعبر عن اكتشاف حقيقة عميقة في الكون والحياة، فهل تغير أيضاً من فهمنا وتفسيرنا للنصوص الدينية، وتفكيرنا الديني؟ لم يعد العلم قائماً على الحقائق الثابتة كما كان طوال الحقب السابقة للنسبية، والمعلوماتية التي تسم المرحلة الحاضرة في المعرفة والتقنية قائمة على النسبية والاحتمالات والشك، فالحقائق ليست موجودة في عالم البشر، والمطلق في الحقيقة والصواب والعدل هو لله وحده، وأما البشر فهم يجتهدون دائماً في الاقتراب من الصواب والعدل، ولا يصلون أبداً الى الغاية النهائية. قال تعالى:"وأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً". فلا حد للإيمان، ولا يمكن بلوغ الكمال فيه، ويظل مطلوباً من الإنسان مراجعة إيمانه وصيانته وحمايته من النقص، وقال تعالى:"وقل رب زدني علما". فالعلم أيضاً يظل في زيادة مستمرة، ولا يمكن أحداً أن يدعي أنه يملك العلم الكامل في مسألة أو قضية، وكلما زاد علمه اكتشف خطأ سابقاً في الفهم والتفكير، لأن زيادة المعرفة هي الكشف عما نجهله، بل إن العلم هو تحديد وإدراك ما نجهله، ويكاد العلم يكون مثل عملية استكشاف لصحراء أو غابة، فهو محاولة لتحديد ما لا نعرفه، وكلما أدركنا مدى ما لا نعرفه، أي مدى جهلنا، يزداد تقدمنا العلمي. وهي فلسفة قد تغير من تفسير النصوص وتطبيقها العملي في مسائل وقضايا لا يملك أحد الجزم بها مطلقاً، مثل العقوبات، فلا يملك قاض أو حاكم أن يعتقد أنه يملك العلم الكامل والعدل المطلق ليقرر حكماً مطلقاً في الصواب والعدل، فقد يحدث مع زيادة العلم وتوالي الأدلة أن يجد ما يغير في حكمه ورؤيته للقضية، فهل يصح في حالة كهذه أن تطبق العقوبة القصوى كالقتل أو الجلد أو قطع اليد على جريمة لا يملك أحد أن يقول إن حكمه فيها صائب تماماً؟ وهل تكون هذه العقوبات في حدها الأقصى رمزية ليس لتطبيقها تماماً، ولكن العقوبة المقدرة تقترب من الحد المطلق بحسب تقدير نسبية الجريمة إلى حدها الكامل، والتي لا يمكن بشراً الوصول فيها إلى الحد النهائي المطلق، وطالما أن المراجعة حقيقة حياتية لم تتوقف في تاريخ البشرية على مستوى الأفراد والجماعات والأفكار والعلوم والمؤسسات، وهو أمر لا يمكن نفيه أبداً في أية قضية، ألا يعني هذا أن الحدود والعقوبات هي مقولة مطلقة نهائية تقترب العقوبات منها ولا تصل إليها طالما أن الجريمة نفسها لا يمكن الجزم بأنها كاملة؟ وتمتد النسبية إلى فهم كل النصوص والأحكام وتفسيرها أيضاً لتنتفى مقولة الحكم اليقيني المطلق، ولذلك فإنه"لا إكراه في الدين"لأن صواب الاعتقاد والمحاسبة عليه لا يملكه أحد ولا يحيط به سوى الله عز وجل عليه، ومن ثم فهل يمكن أن يكون الحكم على المرتد بالقتل حكماً دينياً صحيحاً؟ أم أنه تقدير سياسي تتولاه مؤسسات الحكم والقضاء وفق ما يترتب عليه من التزامات وحقوق سياسية؟ فحين يكون الدين أساس المواطنة، فإنه تترتب عليه التزامات وحقوق سياسية وأمنية ومالية، ولكن حين تقوم الدول على أساس المكان، فإن المواطنة لا تقوم على الدين الذي لا يغير من الالتزامات والحقوق في عقد الدولة مع المواطنين، وفي حالة كهذه هل تكون الردة أمراً اعتقادياً فكرياً لا يغير من ولاء المواطن والتزاماته السياسية للدولة والمجتمع، وحتى مفهوم الردة الذي أطلق بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن كله دينياً ولكنه سياسي، فالكثير من المجتمعات والكيانات السياسية التي دخلت في صراع مع دولة المسلمين الجديدة بقيادة أبو بكر لم تكن ترفض الإسلام كدين واعتقاد، لكنها لا تريد أن تكون تابعة سياسياً لدولة المسلمين التي أخذت بعد الرسول طابعاً سياسياً وإدارياً، فيقول شاعر من هؤلاء"المرتدين": أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عباد الله ما لأبي بكر؟ أيورثها بكراً إذا مات بعده وتلك لعمر الله قاصمة الظهر والقتال والصراع لم يكن دائماً بين إيمان وكفر، ولكنه بين الدولة والمتمردين عليها، أو بين الشرعية السياسية وبين عدم الاعتراف بها، ولا يختف الأمر عن كل الصراعات السياسية الأخرى في التاريخ الإسلامي، مثل صراع الأمويين والهاشميين، والأمويين والعباسيين، والعثمانيين والمماليك، فهل كان إعدام سلطان المماليك على يد السلطان العثماني حكماً دينياً أمرت به الشريعة الإسلامية؟ النسبية تصلح لتطوير الفهم والعمل ومراجعتهما وتطويرهما باستمرار، وربما تتفق مع جوهر الإيمان لأنها عملية بحث مستمرة، واعتقاد دائم متواصل أن هناك ما هو أفضل وأكثر صواباً، وأن الصواب والعدل في حدهما النهائي المطلق لله لا ينازعه فيهما أحد، ومن ثم فإن ادعاء الصواب يتنافى مع الإيمان، قال تعالى:"وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً". وقد تمضي بنا النسبية والتساؤلات الجديدة إلى متوالية طويلة ومعقدة، ونجد أننا قائمة طويلة منتظرة من التحولات المكافئة لتحولات العلم والحياة والفلسفة، من المطلقيّة إلى النسبيّة، ومن الجماعات إلى المجتمعات، ومن الدولة الإسلاميّة إلى دولة المسلمين، ومن السياسة إلى الإصلاح، ومن الهرميّة إلى الشبكيّة، ومن التلقي إلى المشاركة، ومن الأُحاديّة إلى الانتقاء والتعدّديّة، ومن أُحاديّة الصواب إلى تعدّديّته، ومن الكمال إلى الاقتراب منه، ومن لذّة اليقين إلى قسوة الشك، ومن مظنة الصواب إلى حقيقة السؤال، ومن"غيتو"الجماعات والتنظيمات إلى فضاء الزمان والمكان. * كاتب أردني