خبر صغير، ولكن خطير، بالكاد لحظه الاسبوع الماضي الاعلام العربي الغارق حتى أذنيه في حروب العراق وفلسطين، ومعارك جورج بوش وجون كيري الانتخابية، وأفلام هوليوود وتقارير الكونغرس حول أحداث 11 أيلول سبتمبر. عنوان الخبر: الصراع الصيني - الياباني على النفط، بدأ يصبح لاهباً. أما تفاصيله فتدور على النحو الاتي: منذ أشهر عدة، وجدت الصين واليابان، وهما الان من أقوى الدول صناعياً وسياسيا في العالم، نفسيهما عالقتين في عنق زجاجة خانق، بسبب الخلافات على المداخل الى حقول النفط الغنية في سيبيريا. فاليابان، المعتمدة بشكل كامل على البترول المستورد، بذلت قصارى جهدها لأقناع موسكو بمد خط أنابيب نفط طوله 2300 ميل من سيبيريا الى السواحل اليابانية. وهذه "القصارى" شملت عروضا للروس بدفع خمسة بلايين دولار لتمويل الخط، وسبعة بلايين أخرى لتطوير حقول سيبيريا، وبليونين آخرين لأقامة "مشاريع إجتماعية" إقرأ مشاريع رشاوى! في بلاد القياصرة. والصين، التي أصبحت ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم بعد الولايات المتحدة، ترى الى النفط الروسي بوصفه جزءاً حيوياً من أمن طاقتها. وهي تستخدم العصا والجزرة مع موسكو لأقامة خط انابيب بطول 1400 ميل من سيبيريا الى جنوب منطقة داغينغ الصينية. هذا التنافس الساخن بين العملاقين الآسيويين، دفع المحلل الاميركي بول روبرتس الى القول بأن العلاقات بينهما "وصلت الى أخطر مرحلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية". كما دفعت عدداً من كبار السياسيين اليابانيين الى مطالبة حكومتهم بإعادة تسليح اليابان "لتمكينها من ضمان أمن الطاقة"، على حد قول بعضهم. حتى الآن، قد يبدو هذا الخبر مجرد زوبعة عادية في فنجان صغير، أو تنافسات محدودة المكان والزمان بين قوتين صاعدتين. لكن الصورة لا تبقى على هذا النحو حين نبدأ برؤية خلفيتها التي توضح أمرين اثنين: الاول، أن "الحرب النفطية" الصينية - اليابانية الراهنة، هي في الواقع جزء من حرب عالمية حقيقية وشاملة للسيطرة على ما تبقى من وقود أسود على هذا الكوكب الازرق. والثاني، ان هذه الحرب نشبت بالدرجة الاولى، لان كل الدول الكبرى والمتوسطة في العالم باتت تدرك ان طاقة النفط التي تستند إليها كل اقتصاداتها، وصل الى الذروة في الانتاج وسيبدأ قريباً مسيرته نحو الانحدار والنضوب. المعطيات الموضوعية، والارقام الاكثر موضوعية، توضح هذه النقطة الاخيرة. ففي العام 1999 أصاب مايك بولين، رئيس شركة "أركو"، العالم بالذهول حين قال: "لقد دخلنا مرحلة بداية الايام الاخيرة لعصر النفط". ومنذ ذلك الحين كرت سبحة المعلومات، التي يبدو ان شركات البترول الكبرى كانت تعرفها لكنها اختارت إخفاءها. العد العكسي النفط، كما هو معروف، أرخص وأهم مصدر طاقة اكتشفه البشر على مدار تاريخهم. وخلال القرنين الماضيين، اعتاد الناس في الدول الصناعية الغربية على الفكرة بأن هذا النوع من الطاقة الاحفورية، موجودة بكثافة ووفر ورخص. وهم أقاموا كل أنظمتهم الاجتماعية استناداً الى الاعتقاد بأن النمو الاقتصادي بلا حدود، أمر بديهي سيستمر الى الابد. لكن يبدو الان أن هذه الفكرة بدأت تتبدد هباء، بعدما أكد العديد من الخبراء ان إنتاج النفط العالمي سيصل الى ذروته بين عامي 2006 و2016، وبأنه سيكون هناك بعد هذا التاريخ تراجع بنسبة اثنين قي المئة كل عام من الطاقة المتوافرة للدول الصناعية. ويورد الجيولوجي البترولي كولن كامبل المقارنات المهمة الآتية: اكتشافات النفط في الولايات المتحدة وصلت الى ذروتها في ثلاثينات القرن العشرين. ثم لحقتها ذروة الانتاج بعد نحو 40 عاماً. ومنذ 1970 باتت الولايات المتحدة تستورد المزيد من النفط كل عام للتعويض عن النقص في الانتاج المحلي. وهي تحولت الان الى أكبر مستورد للبترول في العالم. وبالمثل، الاكتشافات النفطية العالمية وصلت الى ذروتها في ستينات القرن العشرين، وستليها ذروة الانتاج في وقت ما من العام 2010. وحين يحدث ذلك، سيبقى في باطن الارض نحو تريليون برميل نفط جاهزة للاستخراج. لكن بعدها ومع كل سنة تمر سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، ضخ الكميات نفسها من البترول. لماذا؟ ببساطة لان الطلب العالمي على النفط سيزيد، فيما سيبقى العرض او الانتاج على حاله قبل أن يبدأ بالانخفاض. وعلى سبيل المثال، الطلب الجديد عل الكهرباء في الولايات المتحدة وأوروبا، بدأ يفوق العرض من إمدادات الطاقة والغاز الطبيعي. وهذا يهدد الآن بمزيد من انقطاع التيار الكهربائي. وعلى سبيل المثال أيضاً، بدأ الطلب على النفط في دول صاعدة مثل الصينوالهند والبرازيل والنمور الاسيوية، يزداد بشكل سريع الى درجة انه قد يتضاعف العام 2020. وهذا بالطبع من دون ذكر أزمة الطاقة في العالم الثالث، التي تدفع أكثر من بليوني شخص نحو أشداق الفقر واليأس والحروب. لكن، وعلى رغم هذا الاستنزاف السريع للنفط، تجرجر الدول والشركات الغربية قدميها، وترفض الاستثمار للعثور على بدائل جديدة للطاقة. فطاقة الشمس والريح المتجددة لا تحصل على أكثر من واحد في المئة من موازنة الطاقة الفيديرالية الاميركية. والتحّول الى الطاقة النووية يواجه بمعضلة كبرى هي كيفية التخلّص من النفايات الذرية القاتلة للحياة والبيئة. والهايدروجين ليس مصدر طاقة على الاطلاق، بل هو مجرد ناقل للطاقة. والمصانع تحتاج الى طاقة لانتاج كميات من الهايدروجين أكثر مما يمكن لهذا الاخير أن يعطي منها. وعلى أي حال، طاقة الهايدروجين التجارية في حاجة الى الغاز الطبيعي، وهذا ما يعيدنا الى دائرة الطاقة الاحفورية. كل هذا يعني أن الدول الصناعية في العالم ستكون مضطرة من الآن وحتى عقود مقبلة، للاعتماد على إمدادات النفط. وكل هذا يعني أيضاً ان هذه الامدادات، وبعد ان يصل الانتاج الى ذروته خلال سنوات قليلة، ستكون أقل من المطلوب. وبالطبع مضاعفات هذا التطور ستكون مريعة. فالانتاج العالمي للغذاء الذي توّسع بشكل نوعي خلال القرن العشرين بفضل إمدادات طاقة البترول، سيتوقف عن النمو. ومع التراجع المحتمل لهذه الامدادات، لن تتمكن الجرارات من العمل ولن تتوافر الاسمدة الكيماوية والمبيدات والادوية الزراعية التي كانت في أساس الثورة الخضراء. وكما في الزراعة كذلك في الصناعة والحياة المدينية التي تعتمد برمتها على النفط والغاز الطبيعي. إضافة، الى ان الذروة، وبالتالي الندرة، النفطية سيكون لها تأثير ضخم على العلاقات الدولية. صحيح أن حروب السيطرة على الموارد الطبيعية الثروات الزراعية والسمكية، الخيول، المراعي، الممرات المائية وغيرها ليست بالأمر الجديد، وصحيح أن معظم حروب القرن العشرين اندلعت من اجل النفط، إلا أن الصحيح أيضاً ان مثل هذه الحروب حدثت خلال وجود وفرة في معروض الموارد الطبيعية والطاقة. أما الآن، ومع تبدد هذه الوفرة، فإن هذا سيؤدي وفق ريتشارد هاينبرغ مؤلف كتاب "النفط والحرب ومصير المجتمعات الصناعية"، الى نشوب نزاعات عسكرية مريرة وضارية بين الدول. ويضيف: "... وأميركا، بصفتها أكبر مستهلك للطاقة في العالم، ومالكة أكبر ترسانة حربية في التاريخ، ستكون الطرف الابرز في هذه الحروب التي ستدمغ كل القرن الحادي والعشرين بدمغها الخاص". رقعة الحروب حسناً. مثل هذه الحروب بدأت بالفعل. وهي واضحة للعيان في كل وأي مكان يوجد فيه شبر واحد من النفط، أو ليتر واحد مكعب من الغاز الطبيعي، على وجه هذه البسيطة. خريطة الطريق التالية توضح طبيعة هذه الحروب: حرب العراق: منذ أن وطأت أقدام المارينيز الاميركيين أرض العراق، والترسانة الاعلامية الاميركية تركّز على ان الحرب شنت من اجل السلام العالمي أسلحة الدمار الشامل، او المثل العالمية الحريات والديموقراطية. أما النفط فغاب تماماً عن لعبة المصطلحات الاميركية. لا بل ذهب دونالد رامسفيلد، وزير الدفاع الاميركي، الى حد القول: "نحن لا نحّرك قواتنا ونجعلها تدور حول العالم لمجرد محاولة السيطرة على نفط الاخرين. ليس هكذا تعمل الديموقراطيات". وقبل رامسفيلد وبعده، كرت سبحة البيانات الاميركية التي تؤكد كلها ان غزو العراق معطّر بكل رياحين القيم والمثل، وبريء من كل ملوثات النفط والمصالح. ولخصّ دونالد هيبرن، الباحث في "مجلس دراسات الشرق الاوسط الاميركي"، هذا المنطق بالحجج الآتية: - الاستهلاك العالمي من النفط يبلغ 78 مليون برميل يومياً، تقدّر مساهمة العراق فيه بقرابة ثلاثة ملايين برميل. وبغض النظر عمن يهيمن على الانتاج العراقي، فإن الحجم الاضافي الذي بمقدور هذا البلد توفيره للسوق العالمية على المدى القصير، لا ينطوي على شأن كبير أو تأثير كبير على تجارة النفط الدولية. - من السخرية الاعتقاد بأن القيادة العسكرية الاميركية ستقدم على نحو خال من المسؤولية، على التضحية بأرواح آلاف الشبان الاميركيين لمجرد الحصول على نسبة ضئيلة من إنتاج النفط العالمي، حتى ولو ادى ذلك الى إفادة مباشرة لشركات النفط الرئيسة في أميركا. - العراق سينتج خلال السنوات المقبلة نفطا بقيمة 400 بليون دولار، ستستخدم كلها لاعادة البناء فيه. وهذا المبلغ لن يستخدم في تعريض خسائر الحرب الاميركية التي يتوقع ان تبلغ قريباً 250 بليون دولار .... منطق مقنع؟ كلا البتة. او هذا على الاقل ما يقوله الآن العديد من حلفاء أميركا القلائل في أوروبا، وما يعرفه أصدقاؤها الكثر في آسيا وإفريقيا. وهكذا يقول جون تشابمان، وهو مساعد وزير بريطاني سابق، أن الرئيس بوش سيطر على حقول النفط العراقية بهدف تحسين أمن إمدادات النفط الاميركية. فهذه الدولة تقع في قلب منطقة الخليج التي تنتج ربع البترول العالمي وتحتوي على 60 في المئة من احتياطي النفط على الارض. ومع وجود احتياطي في العراق يقدّر بنحو 115 بليون برميل، ومع حقيقة ان 90 في المئة من الاراضي العراقية لما تستكشف بعد، فإن العراق قادر ببساطة على أن يلعب دوراً كبيراً في مجال ضمان أمن الطاقة بالنسبة الى أميركا. إضافة الى أن واشنطن بوجودها في قلب منطقة الخليج، سيكون في وسعها الامساك بكل صنابير البترول الشرق اوسطي، والتحكّم بأسعاره، وربما أيضاً تدمير منظمة "أوبك" عبر سحب العراق منها. والى النفط، يورد محللون غربيون آخرون سبباً آخر لا يقل أهمية: الدفاع عن الدولار بوصفه العملة الصعبة الرئيسة في الاقتصاد العالمي، من خلال استخدام النفط أو بالأحرى السيطرة على النفط كسلاح سياسي. كتب ديك تشيني في وقت مبكر من العام 1990، حين كان يعمل في قطاع النفط: "من يسيطر على تدفق بترول الخليج الفارسي العربي سيقبض ليس فقط على خناق اقتصادنا، بل أيضاً على خناق دول العالم الاخرى أيضاً". وهذه السيطرة لها رمز اسمه الدولار، الذي فرضته واشنطن خلال سبعينات القرن العشرين كعملة وحيدة تتم بها المتاجرة بنفط "أوبك". ومنذ ذلك الحين، كان في وسع الحكومات الاميركية المتعاقبة أن تطبع ما تشاء من الدولارات لتغطية عجوزاتها التجارية الضخمة، مع إبقاء هذه الدولارات في أسواق المال الاميركية. لكن في عامي 1999 و2000، حدث شيء خطير: إيران ثم العراق تحولتا من الدولار الى اليورو. وهذا كان على الارجح السبب الحقيقي والاول الذي دفع بوش الى وضع هاتين الدولتين في خانة "محور الشر"، لأنه لو حذت دول "أوبك" الاخرى حذوهما، ستكون المضاعفات الاقتصادية كارثية على الولايات المتحدة. والآن، ومع وجود القوات الاميركية في بغداد، عاد الدولار سريعاً ليحتل عرش التبادلات النفطية العراقية مع العالم. ومع وثوب هذه القوات نفسها الى كل حقول النفط العراقية المكتشفة وغير المكتشفة، سيكون في مقدور الشركات الكبرى الاميركية الاطمئنان الى ان في وسعها مواصلة النمو بلا حدود ولو موقتاً. أفغانستان: كما الامر في العراق، تشدّد واشنطن على أنها قدمت الى بلاد الافغان لملاحقة أسامة بن لادن، والقضاء على نظام حركة "طالبان"، وتحرير المرأة الافغانية من قيود العبودية. لكن مايكل مور، مخرج ومؤلف فيلم "فهرينهايت 9/11" الشهير، ومؤلف كتاب "سوبر وايت مان" الاشهر، له وجهة نظر أخرى مغايرة تماماً. فهو يتساءل: هل 11 ألف جندي اميركي عدد كاف لتحقيق كل هذه الاهداف الكبرى ضد طالبان وبن لادن؟ وهو يرد سريعاً: كلا. ثم يتساءل: إذن لماذا الغزو؟ وحينها يورد الوثائق التي تثبت ان حميد قرضاي وباقي أركان حكمه، كانوا في الواقع موظفين في شركة النفط التي كان يديرها جورج بوش وديك تشيني، وان الهدف الحقيقي للغزو هو تسهيل مد خط أنابيب نفط بحر قزوين عبر الاراضي الافغانية. نفط آسيا الوسطى: "اللعبة الكبرى" تعبير شهير صكه روديارد كيبلينغ لوصف السباق المحموم بين روسيا القيصرية وانكلترا الفيكتورية والامبراطورية العثمانية للسيطرة على آسيا الوسطى في القرن التاسع عشر. الهدف آنذاك: الامساك بطرق التجارة المؤدية الى الهند. هذه اللعبة الكبرى نفسها أطلت برأسها مجدداً، بعدما دخلت أميركا رسمياً الى آسيا الوسطى عبر أفغانستان، والى أفغانستان عبر بوابات آسيا الوسطى. بيد ان اللعبة الجديدة باتت لها حلة جديدة، وأهداف جديدة، ولاعبون جدد. فهدف الصراع لم يعد الهند بل النفط. وجنبا الى جنب مع النفط، هناك الموقع الجيو - إستراتيجي لآسيا الوسطى بصفتها قلب قارة "أورو - آسيا"، والنقطة الجغرافية التي تتقاطع فيها العوالم الاميركية والصينية والروسية والهندية والاسلامية. وهكذا، فأن من يسيطر على هذه المنطقة، سيمسك بخناق هضبة أورو - آسيا برمتها من أعلى العنق. وبعدها سيدين العالم كله له. كما انه سيتّمكن من أدماج نفط وغاز حوض قزوين في منظومة "أمنه القومي"، بصفته ثاني أكبر "مزيّت" نظيف ورخيص للاقتصاد العالمي بعد نفط الخليج. من هي القوى المشاركة في هذه اللعبة الكبرى الجديدة؟ محليا، هناك دول آسيا الوسطى الاسلامية الخمس كازاخستان، أوزبكستان، قرغيزستان، طاجكستان، وتركمنستان. ثم هناك أيضاً دول منطقة القوقاز الثلاث أذربيجان وأرمينيا وجورجيا. الدول الخمس الاولى كان يمكن أن تكون دولة اتحادية واحدة، لولا المعارضة القوية من جانب روسيا. ولأن هذه الدول عالقة في بيئة جغرافية مغلقة من دون منافذ على البحار والمحيطات، فأنها تجد نفسها مضطرة للقيام بأمرين أثنين: قبول الهيمنة الروسية كأمر واقع تاريخي - جغرافي، وممارسة سياسات خارجية تتسم باللين والحلول الوسط بهدف الحفاظ على خطوط المواصلات البرية التي هي مورد عيشها. وهكذا فان الجغرافيا لا الثقافة هي التي تحكم هنا. ولولا ذلك لوجدت هذه الدول نفسها مدفوعة للعودة الى وضعيتها السابقة كمراكز حضارية وثقافية بارزة للشرق الاوسط الاسلامي. أما دول القوقاز الثلاث، فهي أشد خضوعاً بما لا يقاس من دول آسيا الوسطى الى نفوذ موسكو، بسبب سياسة "فرّق تسد" التي تمارسها هذه الاخيرة ضدها. أما اللاعبون الخارجيون، فهم يتوزعون على ناديين اثنين: نادي الدول الكبرى والنووية الذي يضم الى روسيا، الولايات المتحدةوالصينوالهند، ونادي الدول الاقليمية المتوسطة ايران وتركيا وباكستان. لكل من هذه الدول مصالح قصوى في آسيا الوسطى - القوقاز. فالصين تعتبرها سوقاً مربحة، ومصدراً مهماً لامداداتها النفطية المستقبلية، وحاجزاً أمام امتداد الاصولية الاسلامية الى منطقة كيزينجيانغ الصينية الاسلامية. والهند تنشط فيها اقتصادياً وسياسياً، بالتعاون مع روسيا، لمنعها من التحول الى قاعدة اسلامية وباكستانية ضدها. اما ايران وتركيا، فإنهما الجسور الأساسية التي تعبر فوقهما الصراعات الدولية الى آسيا الوسطى، بسبب العلائق الاثنية والثقافية والدينية والتاريخية التي تربطهما بهذه المنطقة. لكن تجربة السنوات العشر التي تلت سقوط الاتحاد السوفياتي، أثبتت أن هاتين القوتين الاقليميتين لم تستطيعا لا بشكل منفرد ولا ثنائياً ملء الفراغ الروسي، لاعتبارات شتى اقتصادية ودولية واستراتيجية. ويبقى الاهم في الميزان اللاعبون الروسي والاميركي والاوروبي. فهم الأطراف التي ستقرر طبيعة العلاقات بينهم، حاضر نفط وغاز كازاخستان وأذربيجان، ومعهما مستقبل قارة أورو - آسيا. إفريقيا: من بين كل السياسات الأميركية في انحاء العالم، تبدو توجهات واشنطن في إفريقيا هي الاغرب. فبعد إهمال شبه كامل دام عقودا طويلة، دب النشاط الاميركي فجأة في كل أوصال هذه القارة السمراء من أسفل نقطة في جنوب إفريقيا الى أعلى بقعة في شمالها. السبب؟ النفط بالطبع! يقول وولتر كانشتاينر، مساعد وزير الخارجية الاميركي: "نفط إفريقيا بات جزءا من مصالحنا القومية الاستراتيجية". ويقول تشيني في تقرير "سياسة الطاقة القومي الاميركي": "القارة أصبحت الان أسرع موارد الطاقة نمواً بالنسبة الى السوق الاميركية. وهذا صحيح بالطبع. فالنفط والغاز الأفريقيان، وعلى رغم ان حصتهما العالمية لا تتجاوز 7 في المئة، يزّودان الولايات المتحدة بنحو 15 في المئة من وارداتها. وسيقفز هذا الرقم الى 25 في المئة العام 2015. معظم هذه الواردات سيأتي من دول غير عضو في منظمة "أوبك" عدا نيجيريا 1.8 مليون برميل التي تحثها واشنطن الآن على مغادرة المنظمة. وهذه الدول هي تشاد، جزيرة ساو تومي الصغيرة، غينيا الاستوائية، انغولا نحو مليون برميل و... ومن؟ السودان! فكما في العراق وأفغانستان وآسيا الوسطى، ترفع واشنطن الآن سيف حقوق الانسان فوق رأس السودان للسيطرة على نفطه وغازه وضمه الى مخزون المصلحة القومية الاستراتيجية الاميركية. بالطبع، لسنا هنا على وشك الدفاع عن الفظائع التي أرتكبتها، ولا تزال، الحكومة السودانية ضد مواطنيها في إقليم دارفور. فما يجري هناك، حيث قتل خلال أشهر قليلة أكثر من 30 ألفاً وشرّد مليونا مواطن، تنطبق عليه كل مواصفات وتعريفات خرق حقوق الانسان. كذلك، لسنا في وارد الدفاع عن مركزية سياسية إستبدادية في الخرطوم، لم تسفر خلال السنوات الخمسين الماضية سوى عن حروب دائمة، عدا حفنة سنوات سلام بين 1972 و1983. فالفيديرالية الديموقراطية قدر سياسي لهذه الدولة العربية - الأفريقية، متطابق مع قدرها الجغرافي الذي جعلها الاكبر والاكثر تنوعاً إثنياً ودينياً في القارة الافريقية، والذي حباها بنهرين كبيرين وتاريخيين النيل الابيض والنيل الازرق وخيرات زراعية وموارد طبيعية لا حدود لها. لكن، وبعد قول كل شيء عن موبقات الحكومة السودانية، نأتي الى موبقات الحكومة الاميركية. فلا أحد كان قادراً حتى الآن على إقناع أحد، ان يقظة الضمير الاميركية المفاجئة لحروب جنوب السودان، ثم انفجارات دارفور في غربه، وربما حروب جبال النوبة وضفاف النيل الابيض، كانت يقظة ضمير حقاً، لا يقظة نفطية واستراتيجية. ولهذا العجز عن الاقناع سبب معروف: كل آثار الاقدام الاميركية في السودان تقود الى حقول النفط لا الى حقول القمح. وعلى رغم أن اللوبي المسيحي البروتستانتي القوي في الولايات المتحدة الداعم لمسيحيي جنوب السودان ووثنييه!، لعب على مدار السنوات الماضية دوراً في بلورة السياسات الاميركية الراهنة إزاء هذه الدولة العربية، إلا أن هذه السياسات لم "تنضج" إلا بعد وصول بوش الى سدة الرئاسة العام 2000 على أكتاف شركات النفط الكبرى الاميركية. وكان لافتاً، على أي حال، أن يدلي الرئيس الاميركي بخطاب في 3 أيار مايو 2001 امام اللجنة اليهودية الاميركية، يركّز فيه لا على العراقوإيران والشرق الاوسط الكبير، بل على السودان. فهو اتهم حكومة الخرطوم "بشن حرب ضد مواطنيها المسيحيين والتقليديين"، وأعلن عن نيته "لفت أنظار العالم كله الى الفظائع في السودان". وبقية القصة معروفة: ضغوط أميركية عنيفة منذ ذلك الحين على نظام عمر البشير لحمله على تغيير لون جلده، ولتكريس التدخل الاميركي في كل شاردة وواردة في الوضع الداخلي السوداني، من أدغال الجنوب الى سهوب دارفور. وحصيلة القصة معروفة أيضاً: نجاح هذه الضغوط، استسلام البشير، وبدء تحّرك شركات النفط الغربية الرئيسة إيكسون وشل وتوتال للعودة الى الساحة السوادنية لمنافسة وربما للحلول محل "سي. أن بي. سي" الصينية، و"أو. ان. جي. سي" الهندية، وبتروناس الماليزية. إنتاج النفط السوداني يبلغ الآن نحو 250 ألف برميل يومياً يصّدر في معظمه، عدا 60 ألف برميل مخصصاً للأستهلاك المحلي. لكن رقم الانتاج مرشح للقفز الى 500 ألف برميل العام 2005، وربما الى أكثر بكثير خلال السنوات العشر المقبلة، لأن المحللين يعتقدون أن مناطق سودانية عدة في الجنوب ودارفور تسبح فوق بحيرات كاملة من البترول. بيد ان اهتمامات واشنطن لا تقتصر على النفط، على رغم أولويته القصوى. فكما انها خططت لكي يكون العراق منصة إنطلاق نحو السيطرة على الشرق الاوسط الكبير ومنه الى قارة أوراسيا الاوسع، كذلك هي تعتبر السيطرة على السودان منصة الانطلاق المفترضة الرئيسة للأطباق على كل بقعة تحتوي على النفط في القارة الأفريقية مهما صغر حجمها. النفط، أو بالاحرى السباق للسيطرة على ما تبقى منه، أطلق إذاً شارة البدء لأندلاع "الحرب العالمية الرابعة". وهذه الحرب لا تدور رحاها بعنف الآن في العراق والخليج العربي، وآسيا الوسطى والقوقاز، والسودان وإفريقيا، وحتى في محمية آلاسكا الاميركية فحسب، بل أيضاً في أقاصي سيبيريا. وهذا، على أي حال، ما دّل عليه ذلك الخبر الصغير الذي لم ينتبه اليه الاعلام العربي قبل أيام، حول وصول الصراع النفطي الصيني - الياباني الى مرحلة خطرة