تتغير المقاييس والمواصفات في عالم الموضة بسرعة ولم تعد موازين الجمال تتطلب حسناً وقداً ميالاً ضمن المفهوم العام للأنوثة، بل ابتعدت كثيراً عن سحر المرأة ودلالها، وعن تناسق الجسد والملامح التي أبدعها كبار الرسامين والنحاتين العالميين لتخليدها في رسومات ومنحوتات تملأ المتاحف والصالونات. ولن نذهب بعيداً في مقاييس الجمال، لأن عالم الموضة والأزياء اليوم اختار الجمال حتى وإن لم يكتمل نضج الجسد، فأعطى لعارضات الأزياء غموضاً يجمع الحقيقة مع الخيال ويخلط الماضي مع الحاضر. وفي العرض الأخير لمجموعة أزياء الخريف والشتاء المقبلين الذي جرى في باريس قبل أسابيع، ظهرت عارضات الأزياء وكأنهن خيالات آتية من أشرطة السينما الصامتة، وكأن هناك قدرة مجهولة رمت بهن من عصر إلى آخر. مع ذلك فقد كانت هؤلاء العارضات أحلى وأفضل بكثير من تلك اللاتي عرضن مجموعة أزياء البريطاني توم فورد في الأعوام الماضية وسان لوران. يومها كانت العارضات يرتدين الملابس الممزقة وبدون وكأنهن خارجات من عملية عنف واغتصاب جماعية! عارضات اليوم يحملن غموض الجسد المراهق الذي لم يخرج من الطفولة بعد. وهن اليوم أكثر شهرة وأغلى سعراً، صغيرات بأجساد غريبة هي أشبه بروبوت حي ابتكره عبقري مجنون، جسد نحتار في تصنيفه، يخيفنا بعض الشيء فنشيح النظر عنه، ونهتم بما يرتديه. تتمتع العارضات الجديدات بقامات طويلة 1.80 متر وكلهن في عمر المراهقة، وهو سن ضبابي يتمسك بالطفولة ويخاف الدخول إلى عالم النضج. وبحثاً عن هذا النوع من الفتيات، أوما يُنعتن بالجواهر النادرة يدور عملاء وعميلات كبار الوكالات العالمية المتخصصة بعالم الموضة ارجاء المعمورة، في المدن والقرى الصغيرة، خصوصاً في روسيا والهند وأميركا اللاتينية، وأحياناً قد تلعب الصدفة دوراً، فيجد الوكيل الجوهرة النادرة ويسرع في تقديمها للمشاهير من مصوري الموضة ومصممي دور الأزياء الشهيرة. ونتساءل عن هذا الاختيار الغريب لعارضات اليوم، وعن تغيير مقاييس الجمال في الوقت الذي يشهد عودة ما إلى أزياء أكثر كلاسيكية كما ظهر في العروض الأخيرة. أما هؤلاء العارضات اللواتي أغراهن عالم الشهرة والأضواء والمال، فهن نادراً ما يستمررن في هذه المهنة المشهورة بصناعة النجوم وتدميرها لهن عندما تشاء. والواقع أن هؤلاء الفتيات لا يملكن شيئاً يميزهن عن سواهن ما عدا مفهومي الجمال والاختيار للعارضات بشكل عام. كما أننا لا نستطيع اطلاق تسمية "العارضة الأولى" على إحداهن، فهذه التسمية أصبحت اليوم خارج نطاق الموضة الحديثة. إذن ما من عارضة أزياء أولى، بل عارضات أزياء اخوات، أو توائم غير متشابهة كلياً، وكلهن يملكن وجهاً يحمل تعبيراً طفولياً غامضاً، وكأنه يبث رموزاً سرية مشتركة. والأغرب أن تلك الملامح التي لا تبتسم بل تهمس في الآذان، أنها لم تترك الماضي، وهي خليط من الحاضر والماضي، أو كأنها ملامح تتقمص ملامح أخرى لحياة أخرى. والحقيقة أن مصممي الأزياء أعطوا العارضات سمات شخصيات قديمة لبطلات الأفلام الصامتة، وأخذوا تلك الهالة الضبابية التي اتسمت بها أفلام الأمس لعدم وجود التقنية اللازمة وزرعوها على وجوه مراهقات لم ينضجن بعد. أما النتيجة، فلم تكن جمالاً فعلياً، بل أشباح نساء ضائعة بين الماضي والحاضر، مخيفة إلى حد ما. وقد صفق الحضور أثناء العرض لخطوط الموضة أكثر من العارضة، وفضلوا النظر إلى جمال القماش والزي لا المادة الحيّة التي تحملها، وقد تكون هذه رغبة المصممين! كانت ثمانينات القرن الماضي حقبة انتصار المرأة وانطلاقتها في كل المجالات. وكان اختيار العارضات كما الأزياء يتماشى مع روح العصر، وامتازت العارضة بجسم رياضي بعض الشيء، يتمتع بأكتاف عريضة وعضلات تناسب في ليونة وأناقة. وفي الحقبة التالية تحول جسد المرأة الرياضي إلى موضة النحافة، وأصبحت أجساد العارضات لا شكل لها، هزيلة لا تملك من أناقة وجمال، عطاءات الطبيعة للمرأة سوى القامة الطويلة. ومع تطور العصر تطورت الموضة ومعها نظرة المصور: صانع النجوم، ومعه المصمم: مبتكر الزي، الذي تتمخطر العارضة بأزيائه. وفي الأعوام الأخيرة عادت صورة العارضة إلى الانوثة كعنصر أساسي في عروض الأزياء. لكنها أي الانوثة حافظت على الرشاقة التي تنتصر إلى النحافة أكثر منها إلى مقاييس الراحلة مارلين مونرو. وللأسف شوه بعض المصممين صورة عارضات أشهر دور الأزياء مثل كريستيان ديور وايف سان لوران، لكن العودة الجديدة إلى بعض الرومانسية والكلاسيكية تعيد الاعتبار للجمال والأناقة في عالم الأزياء