"اسمي جون كيري وقد حضرت للتقرير". هكذا استهل المرشح الديموقراطي للرئاسة الأميركية خطابه لمناسبة "مبايعته" كمرشح للحزب ضد الرئيس جورج بوش، في بوسطن. والعبارة تستعمل عادة في أوساط العسكريين عندما يتقدم أحدهم أمام من هو أعلى رتبة منه للادلاء بمعلومات معينة. فقد بدا واضحاً، في مؤتمر الحزب الديموقراطي تشديد منظمي المؤتمر، والمرشح نفسه، على المحطات العسكرية في حياة كيري، وحضور عسكريين سابقين ومصابين من ضحايا حرب فييتنام، وذلك لسببين: الأول اظهار كيري كمرشح قوي، له مآثره في الحرب المذكورة، على عكس ما يروج له الجمهوريون. والثاني الغمز من قناة الرئيس بوش الذي فضّل، خلال حرب فييتنام، الانخراط في الحرس الوطني في تكساس، تهرباً من المشاركة في القرعة لاختيار المتوجهين الى الحرب. في الوقت نفسه، كانت ترتفع أصوات مناوئة للرئيس بوش، تتهمه "بالخفة" وبإرسال "أبناء أميركا" الى الموت من دون سبب فعلي ومن دون أية خطة مدروسة لإحلال السلام لاحقاً. صفق الحضور، وقوفاً للمرشح الذي قرر مهاجمة الرئيس بوش مباشرة وفي شكل صريح، وحول أهم قرار اتخذه خلال سنوات رئاسته، أي الحرب على العراق. وهو موضوع كان الجمهوريون يشددون عليه، متهمين كيري باتخاذ مواقف فارغة تجاهه. فكان لا بد له من الاصطفاف الى جانب أكثرية الأميركيين الذين يعتبرون ان هناك خطأ كبيراً في قرار مهاجمة العراق. مثلما ان كيري كان بدأ، منذ أشهر، يأخذ على الرئيس الجمهوري التسرع في القرارات، وعدم التوسع في استقاء المعلومات والتأكد من امتلاك صدام حسين أسلحة دمار شامل، كما كانت تطالب به أكثرية الدول. وأكد كيري في خطابه الهجومي انه في حال أصبح القائد الأعلى للقوات المسلحة، فإنه لن يرسل الجنود الى الحرب بالخداع. فالولاياتالمتحدة، بحسب قوله، لا تعلن الحرب لأنها تريدها، بل هي تقاتل لأن ذلك واجب عليها. والحرب على العراق لم تكن، بالطريقة التي أديرت بها، واجباً على أميركا والأميركيين. لكن، في المقابل، أكد كيري - وهل بإمكانه التهرب من ذلك؟ - انه لن يتردد في استعمال القوة اذا "لزم الأمر". والاجتهاد في هذا المجال واسع جداً. فمن يقرر هذا "اللزوم"، وما هي درجته، وأين تقع الخطوط الحمر وأين يبدأ التهديد ضد أمن الولاياتالمتحدة؟ من هنا، يعتقد كثيرون ان كيري يبقى غامضاً حيال هذه النقاط الأساسية، ما يقلل من هامش المناورة لديه، لغياب أية خطة مضادة عنده في هذا الموضوع الشائك. كما ان سياسيين كثيرين، أميركيين وغير أميركيين يؤكدون ان كيري، الذي صوّت الى جانب قرار الحرب واعلانها، لم يكن ليتصرف بطريقة مغايرة لو كان رئيساً للولايات المتحدة، الا من ناحيتين أساسيتين: عدم معاداة الحلفاء الأوروبيين، ومحاولة استقطابهم الى جانبه واقناعهم بجدوى الحرب، حتى لو تطلب الأمر وقتاً أطول، بدل التفرد والعنجهية والاستهتار بهم وبالرأي العام العالمي، ما وضع أميركا والأميركيين في موضع عداء لا مثيل له للعالم، وهو موقع لا يحسدها أحد عليه، ثم دراسة أعمق للوضع العراقي على الأرض، ووضع خطة مدروسة لمرحلة ما بعد الحرب. لكن كيري، وعلى رغم انفتاحه على العالم، وفي تلميح منه الى ان الولاياتالمتحدة ستبقى سيدة القرار، أكد ان بلاده لن تسمح لأية دولة أو منظمة دولية، باستخدام حق الفيتو عندما يتعلق الأمر بأمن الولاياتالمتحدة. وهو بتأكيده هذا، يلمح الى تهديد الرئيس الفرنسي جاك شيراك باستعمال هذا الحق لمنع تبني مجلس الأمن القرار الذي يسمح للولايات المتحدة بإعلان الحرب على العراق. وهكذا يضرب كيري "ضربة على الحافر وضربة على المسمار" كما يقول المثل العامي. فيأخذ على بوش "خفته" في اعلان الحرب، ويمد يده الى "حلفاء" أميركا، لكنه يرسم حدود هذا الانفتاح، بحسب ما تقتضيه الحاجة. ما هي إذاً خطط المرشح الديموقراطي لإخراج الولاياتالمتحدة من المأزق الذي أوقعتها فيه ادارة الرئيس بوش؟ من الناحية العملية، وعلى رغم الشبه الواضح في الكثير من مواقف الرجلين، خصوصاً في ما يتعلق بأمن الولاياتالمتحدة وأمن اسرائيل - والأمر سيان - الا ان استطلاعات الرأي الأخيرة أظهرت تقدماً ملموساً - حوالى 5 نقاط - للمرشح الديموقراطي. وهي نسبة قابلة للتجاذب في الثلاثة أشهر المقبلة، وهي الأصعب في مرحلة ما قبل الانتخابات، خصوصاً أن على المرشحين اقناع الممانعين أو المترددين بالانتخاب لمصلحتهم. يعرف كيري انه لا يمكنه إظهار أي نقطة ضعف في موضوع الدفاع والأمن ومحاربة الارهاب. من هذه الناحية يتساوى الاثنان، بل يتقدم الرئيس بضع نقاط على منافسه الديموقراطي. وهذا ما دفع القيمين على مؤتمر بوسطن الى اعتماد قاعدة انتخابية أساسية تحت شعار "أقوياء في الداخل، محترمون في العالم". ووردت كلمة "أقوياء" أكثر من 100 مرة في خطاب كيري، في محاولة لرأب الصدع الذي يحاول الجمهوريون استغلاله ضدهم. من هنا كان على كيري تفنيد بنود خطته المستقبلية في موضوع القوة هذه والتشديد على نقاط أساسية في عملية الزحف الى البيت الأبيض. 1- الارهاب: لا تراجع، في البرنامج الديموقراطي، عن محاربة الارهاب. والوسيلة الأفضل، برأي الديموقراطيين، هي مزيد من الصلابة، لكن بالتعاون مع الآخرين. والعمل على اقامة تحالفات قوية، مع احترام أكبر للشعوب الأخرى، لكن من دون انتظار "الضوء الأخضر" من الخارج عندما يتعلق الأمر بأمن الولاياتالمتحدة، بل العمل على اقناع الأصدقاء بتقديم دعمهم الضروري لتحقيق النصر النهائي. والملاحظ هنا ان الفارق بسيط مع جماعة الادارة الحالية اذ هو يتعلق فقط بنواح ديبلوماسية. فماذا سيفعل كيري، اذا أعاد التاريخ نفسه؟ تقريباً الشيء ذاته، يجيب المحللون السياسيون، مع اختلاف بسيط في التعامل مع بقية دول العالم، و"إظهار" ديبلوماسية لبقة لعدم الظهور بمظهر المتفرد البغيض، ودقة أكبر في المعلومات وتعاون أوسع بين الأجهزة التي يعد كيري بالقيام بعملية اصلاح واسعة لها اذا وصل الى سدة الرئاسة. 2- الأسلحة، خصوصاً النووية منها: يعد كيري والديموقراطيون انهم سيحاولون جهدهم لإبقاء هذا النوع من الأسلحة زيادة عن أسلحة الدمار الشامل الأخرى بعيداً عن متناول الارهابيين، كما انهم يعدون بالدفاع عن أميركا "بأي ثمن" ضد أي هجوم محتمل بها. كما انهم لا يتخلون كلياً عن عمليات الدفاع الوقائي، لكن ضمن "اتفاق دولي" لجمع هذه الأسلحة ووضعها في مأمن، والقضاء الكلي على مراكز تصنيعها. يلاحظ هنا ان الفارق الواضح الأساسي بين برنامج كيري وبرنامج بوش هو التركيز على "الاتفاقات الدولية" والتعاون الدولي لأن كيري يعلم ان نقطة ضعف الادارة الحالية هي عدم ايلائها الاهتمام اللازم للرأي العام العالمي وحق احتقارها له. وهذا مجال قد يكسبه نقاطاً ضد خصمه بوش. 3- السياسة الخارجية: وهي النقطة الرئيسية خارج المواضيع الداخلية، التي يعتمد عليها كيري للوصول الى البيت الأبيض، فيركز على الديموقراطية بالاقناع، وعلى السلم والأمن العالميين. ويشدد البرنامج على الوضع العراقي، الأدق في السياسة الخارجية الحالية، لأنه يعتبر ان التوصل الى السلام والأمن في هذا البلد يتم تحقيقهما فقط عبر تعاون دولي، سياسي وعسكري، لكن من دون التخلي عن "القيادة"، لأنه لا يمكن السماح، بترك العراق على حال الفلتان هذه، فيصبح ملجأ للارهابيين من كل الأنواع. لكن كيري، تماماً كمنافسه بوش، يؤكد انه لا يمكن خفض التدخل الأميركي في العراق الا عندما تسمح الأحوال بذلك، فتبقى هذه النقطة غامضة في برنامجه، وهي نقطة ضعف مؤكدة. 4- قضية الشرق الأوسط: وهي القضية الأساس للعلاقة بين العرب والولاياتالمتحدة، وأدت تطوراتها على امتداد العقود الماضية، الى العداء الشعبي العربي للسياسة الأميركية في الشرق الأوسط. والغريب في الأمر ان لا جديد "ديموقراطياً" في الموضوع، ما عدا الوعد بقيام دولة فلسطينية، لكن مع تفعيل دور جديد للسلطة الفلسطينية ودعم ادارة جديدة "تعمل لأجل السلام"، أي، وبمعنى أوضح، التخلي عن ياسر عرفات، وهو ما عمل بوش عليه ولا يزال. أما بالنسبة الى أمن اسرائيل، وهو موضوع يساوي بضعة ملايين من الأصوات، فإن المرشح كيري يعد بأنه، في حال انتخابه رئيساً، سيبقى - كما فعل أسلافه - ملتزماً التزاماً مطلقاً تجاه أمن الدولة العبرية، "الصديقة والحليفة". كما يؤكد ان العلاقة "الخاصة" مع اسرائيل مبنية على أسس لا تتزعزع من القيم المشتركة! كما يعد بأنه سيعمل، إذا أصبح رئيساً، ومهما كانت الأوضاع، على الحفاظ على التفوق العسكري والأمني النوعي للدولة العبرية على جميع دول المنطقة! هذا في الشق الخارجي. أما داخلياً، فيعد كيري بتطوير الجيش وزيادة عديده للتخفيف من أعباء الحرس الوطني، ومضاعفة عديد القوات الخاصة. كذلك يؤكد كيري انه وفريقه سيعملون للوصول الى استقلالية ذاتية للولايات المتحدة في مجال الطاقة، للتخلص من التبعية في مجال النفط "لبعض الأنظمة" التي يصفها أوصافاً لا مجال لذكرها هنا. أما على الصعيد الاقتصادي، وهو حصانه القوي، فيعد الأميركيين بوظائف لا تحصى، مولياً اهتماماً خاصاً للفقراء والمعوزين، ومشدداً على اهتمامه بالطبقات المتوسطة وبالصحة العامة، لأنه يرى ان الطبابة ليست من الكماليات، بل هي حق من حقوق المواطن الذي سيحصل عليها في حال انتخب كيري رئيساً للولايات المتحدة. وكذلك بالنسبة الى التعليم، الذي يؤكد كيري انه سيعمل على جعله في متناول الجميع. ان نظرة شاملة، تظهر الاختلافات في مواقف المرشحين الرئاسيين مختلفة ظاهرياً، لكنها تتشابه كثيراً في العمق. لذلك يركز الفريق الديموقراطي على نقطتين أساسيتين لإيصال مرشحه الى البيت الأبيض: العمل على "اعادة" الولاياتالمتحدة الى الأسرة الدولية وتصحيح صورتها عالمياً. ومن ناحية ثانية، يعمل كيري وفريقه لابقاء غضب فئة كبيرة من الأميركيين متأججاً ضد الرئيس بوش، وهي فئة همها الوحيد اسقاطه كائناً من كان البديل