قبل الانفجار الامني الأخير في غزة بأيام قليلة، كان كاتبان أميركي وإسرائيلي يطرحان سؤال مثيراً: هل انتصرت إسرائيل على الانتفاضة الفلسطينية؟ وهل نجحت القوة الاسرائيلية أخيراً في إخضاع الارادة الفلسطينية؟ الكاتب الاميركي، وهو تشارلز كروثامر المتحمس للصهيونية، قال: "على الاسرائيليين مراجعة حساباتهم. إذ ربما بات عليهم الان الاحتفال بالنصر في الضفة وغزة". والكاتب الاسرائيلي هو مراسل "هآرتس" برادلي بيرستون، قال: "هل حقاً ربحت إسرائيل الحرب على الفلسطينيين من دون ان تدري؟". الاعتبارات التي دفعت كروثامر وبيرستون الى هذه الفرضية كثيرة، منها: تراجع الهجمات الفدائية والعمليات الاستشهادية منذ أذار مارس الماضي بنحو 75 في المئة، و تقدّم العمليات العسكرية الاسرائيلية. نجاح جهود قوات الاحتلال في اجهاض 100 عملية إستشهادية، ومشاركة السلطة الفلسطينية في هذه الجهود. والاهم: فشل التفجيرات الاستشهادية في النيل من معنويات الاسرائيليين، أو من الارادة السياسية الاسرائيلية. والان، وإذا ما أضفنا الى هذه التطورات، "الحرب الاهلية" الفلسطينية الصغيرة، ولكن الخطرة، التي إندلعت قبل أيام في غزة وامتدت شظاياها الى الضفة مع إطلاق النار على نبيل عمرو، يجب مقاربة محصلات كروثامر وبيرستون بالكثير من الجدية والقليل من الهذر. هل انهزم الفلسطينيون حقاً؟ المؤشرات الأولية تدفع الى الرد بالايجاب. فجدار الفصل 440 ميلا، الذي بني منه حتى الآن ربعه، بدأ يشكّل هاجساً سايكولوجياً ملحاً وعائقاً مادياً حقيقياً في حياة الفلسطينيين. وجاء إضراب عزمي بشارة عن الطعام احتجاجاً على هذا المشروع، كإشارة رمزية فاقعة الى هذه الحقيقة. والاوضاع الاقتصادية - الاجتماعية للفلسطينيين وصلت الى مرحلة خطرة، حيث ثلثا الغزاويين باتوا تحت خط الفقر، بسبب الحصار الاسرائيلي، وفساد مؤسسات السلطة الفلسطينية، والغياب العربي شبه الشامل عن محاولات كسر هذا الحصار. والهجمات العسكرية الاسرائيلية المتصلة، خصوصاً اغتيال كوادر "حماس" و"الجهاد" و"فتح"، أربكت التركيبة التنظيمية لهذه الحركات. وهذه أضيفت الى الوهن الذي أصاب السلطة الفلسطينية، الأمر الذي فاقم ضبابية الآفاق السياسية والعسكرية أمام الفلسطينيين. ثم هناك بالطبع الوضع الاقليمي والدولي. فحرب العراق صرفت الانظار بعيداً عن حرب فلسطين، ولغير مصلحة الفلسطينيين. كما أن العمليات الاستشهادية لعبت دوراً في تشجيع أميركا على منح كل أنواع الأضواء الخضر لتل أبيب، وفي إثباط عزيمة الأوروبيين عن رفع الصوت ضد سياسة الارض المحروقة الاسرائيلية. وماذا أيضاً؟ هناك وضع الانظمة العربية التي أدارت الظهر بالكامل تقريباً للقضية الفلسطينية، خوفاً من ان تتحول هي الى قضية على لائحة جدول الاعمال الاميركي. كل هذا العوامل أطلقت رياحاً عاتية في عكس ما تشتهي سفن السلطة الفلسطينية. وهذا ما يعطي الحديث عن التراجع الفلسطيني والتقدم الاسرائيلي بعض الصدقية. السلطة والقضية لكن مهلاً. نحن نتحدث هنا عن السلطة الفلسطينية لا عن القضية الفلسطينية. او بالتحديد عن فشل شكل من أشكال العمل الوطني الفلسطيني، لا عن هزيمة هذا العمل نفسه، كما يشتهي بعض المحللين الاسرائيليين والاميركيين. فعلى أرض الواقع تبرز مسألتين كبيرتين: موت اتفاقات أوسلو، وبدء احتضار مشروع الدولتين اليهودية والفلسطينية على أرض فلسطين. فما يحدث الآن على الجانبين الفلسطيني والاسرائيلي معاً، يشير الى ان حقبة كاملة من مشاريع السلام التي انطلقت مع مؤتمر مدريد العام 1991، بدأت تصل الى خواتيمها. إسرائيلياً، ترجم هذا نفسه في انزلاق اليسار الى حضن اليمين في الخطط الخاصة بإقامة جدار الفصل، وإغلاق أبواب التفاوض مع الفلسطينيين، والتمهيد لضم 45 في المئة من أراضي الضفة الى إسرائيل. وكل هذا سيجعل من احتمال قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة وبالتالي احتمال قيام فكرة الدولتين أمراً متعذراً، إن لم يكن مستحيلاً. وفلسطينياً، أدى الفشل في إجبار اسرائيل على الالتزام بإتفاقات أوسلو، ثم الفشل الاخر في العثور عن بديل لهذه الاتفاقات، الى إفقاد السلطة الفلسطينية حس الأتجاه التاريخي، فباتت كقشة تتلاعب بها الأهواء الاقليمية والدولية. والحصيلة: نجاح الطرف الاسرائيلي في تجاوز آلام الحداد على عملية أوسلو والتحّرك بشكل جماعي نحو ما بعد هذه الاتفاقات. وبقاء الطرف الفلسطيني أسير هذه العملية المجهضة. وبديهي في مثل هذه الحال أن يمسك الاسرائيليون بزمام المبادرة، ويفقد الفلسطينيون أو بالاحرى السلطة أي قدرة على المبادرة. ما يحدث الان في الضفة وغزة هو في العمق الفواتير المؤجلة لفشل عملية أوسلو، التي استحقت دفعة واحدة الان على الفلسطينيين. كما انه في العمق أيضاً إعلان عن الوفاة السريرية لمشروع الدولتين في فلسطين التاريخية. كيف ستسحب هذه الحقائق نفسها على الوضع الفلسطيني؟ ثمة مستويان للرد على هذا السؤال: الاول آني، ويتعلق بمصير الرئيس ياسر عرفات وحركتي "فتح" و"حماس". والثاني بعيد المدى، يرتبط بقدرة الشعب الفلسطيني على مواجهة مرحلة ما بعد سقوط خيار الدولتين. مع المستوى الأول، نجد أنفسنا أمام لوحة تبدو مكرورة الى حد بعيد: عرفات الذي وصفه احد الغربيين بأنه "يستمتع بالبقاء أكثر من النصر"، يخوض للمرة الالف معركة البقاء نفسها التي تعّود خوضها طيلة السنوات ال39 الماضية، والتي كان يخرج منها منتصراً على الدوام. وكما كان يقال في كل معركة من هذه المعارك عن "بداية نهاية" عرفات، يقال الامر نفسه. وهكذا يقال الان ان عرفات لن ينجو هذه المرة بجلده. فوراءه محمد دحلان وكل ميليشيات الامر الواقع الباحثة لها عن مواقع السلطة والثروة في غزة على الطريقة الصومالية، وأمامه أبو العلاء و"حماس" ومصر والامم المتحدةوالولاياتالمتحدة وأوروبا وإسرائيل، ولا مفر. لكن أحقاً ليس هناك مفر؟ الامر كان سيكون على هذا النحو بالفعل، لو كان الأمر يتعلق بأية شخصية سياسية أخرى غير عرفات. إذ من في وسعه ان يواجه هذه الاعاصير الاقليمية والدولية العاتية، وتلك الانقلابات الداخلية الاعتى، من دون ان يفقد رأسه او عقله؟ لكننا نتحدث هنا عن عرفات لا عن غيره. وحين يكون الحديث عنه وحوله، تنهار كل مقومات المنطق، وتتبدد صيغ التحليل العقلاني، وتفشل كل محاولات التنبؤ العلمي. لماذا؟ فليحاول أحدنا العثور على إجابة ما للأحاجي الآتية: 1- الرئيس الاميركي يعلن آناء الليل وأطراف النهار انه لا يعترف بشرعية رئاسة عرفات وينعته بأقسى الاوصاف، أقلها انه عقبة في وجه السلام والديموقراطية. كما يدعو ويعمل من اجل استبداله برئيس وزراء فلسطيني مرضي عنه أميركياً وإسرائيلياً وعربياً. ومع ذلك، يقف بوش بقوة وعناد ضد أي محاولة إسرائيلية لقتله أو اعتقاله او استبعاده. لماذا؟ 2- رئيس الوزراء الاسرائيلي أرييل شارون يلاحق عرفات منذ العام 1982 وحتى العام 2004. وطيلة هذه الفترة السحيقة، سنحت أمام شارون عشرات الفرص لاغتياله كما إغتال كل رفاقه من القادة الفلسطينيين. لكنه لم يفعل. لماذا؟ 3- كل الدول العربية، بما فيها مصر أخيراً، ضاقت ذرعاً بعرفات. لكن كل هذه الدول، وعلى رأسها مصر، ترفض دعم أي جهد لأستبداله بعرفات آخر. لماذا؟ 4- معظم الفصائل الفلسطينية، بما في ذلك العديد من تيارات "فتح" و"كتائب الاقصى" ومنظمة التحرير الفلسطينية، لم تعد تقبل بالسلطة المطلقة لعرفات. لكنها كلها لم تجرؤ حتى الآن على مطالبته بالاستقالة إذا ما واصل التمسك بكل الصلاحيات. لماذا؟ أحاجٍ حقيقية. بالتأكيد. وبما أنه لم يتبرع أحد بعد بتقديم إجابات عقلانية، فلا يبقى سوى النكات التي يطلقها الفلسطينيون ليفسروا بالمزاح ما لا يمكن تفسيره بالجد. أشهر هذه النكات وأطرفها تسير وفق الآتي: "ذهب عرفات لأداء مناسك الحج. وحين وصل الى مرحلة رمي الحجرات السبع على الشيطان، اكتفى برمي ست منها. وحين نبهه مساعدوه الى هذا الخطأ، رد بقوله: يا أغبياء. إني أحتفظ بالحجر السابع لمفاوضة الشيطان في حال ظهر لي". هل يعني كل هذا أننا واثقون من أن الرئيس الفلسطيني سيجتاز حقل الالغام الضخم العالق فيه الآن؟ كلا. لكننا لسنا واثقين بالمقدار نفسه وبسبب "معجزات" أبو عمار الغريبة السابقة بأنه لن يجتازها! كتب جيوفري أونسون، مدير مؤسسسة واشنطن لسلام الشرق الاوسط: "مع كل الارتباك الذي أحدثته القرارات حول الاجهزة الامنية في غزة، إلا ان عرفات أثبت قدرته على التأقلم مع التغيير حتى وهو يؤكد تمسكه بالسلطة. ولا يستبعد الآن أن يسمح له شارون بمغادرة مقره في رام الله الى غزة لتتويج خلفائه هناك. وهذا سيؤدي الى تأكيد نجاحه في لعبة البقاء الجديدة في قلب الحياة السياسية الفلسطينية". مستقبل "فتح" حسناً. عرفات قد ينجو، ولكن ماذا عن حركته "فتح"؟ إنقلاب دحلان في غزة أخرج الى العلن ما يتهامس به كل الفتحاويين وباقي الفلسطينيين في السر: "فتح" ليست فقط منهكة، بل هي أيضاً في مأزق تاريخي حقيقي وعلى ثلاث جبهات دفعة واحدة: 1- على جبهة الشرعية السياسية، حيث أدى فشل اتفاقات أوسلو من دون وجود بديل تفاوضي عنها، الى افقاد الحركة القدرة على إدعاء كونها الممثل الوحيد لنضالات الشعب الفلسطيني. 2- وعلى جبهة الشرعية الاخلاقية. وهذا نجم أساساً عن تفشي الفساد والافساد في العديد من مؤسسات السلطة الفلسطينية الخاصعة لسلطة "فتح". إضافة الى عجز هذه الاخيرة عن توفير أدنى حاجات الصمود لشعب تحت الحصار الاقتصادي والامني منذ ثلاث سنوات متواصلة. 3- وعلى جبهة الشرعية الثورية، بعدما تحولّت فتح او على الاقل صف كوادرها الاول الى "حزب الدولة"، حتى قبل قيام هذه الدولة ورحيل الاحتلال. نقص المناعة في هذه الشرعيات الثلاث، مضافاً اليه تقدم العمر في هذه الحركة التي ولدت قبل 39 عاماً، جعل بطن "فتح" مفتوحاً أمام شتى مباضع المخاطر الداخلية والخارجية. وعلى عكس ما يعتقد كثيرون، فإن عرفات هو الضامن الوحيد لعدم تحّول الحركة الى حركات عدة، على رغم الدور الكبير الذي لعبه، ولا يزال، في تشريع الفساد، وعرقلة التفتح الديموقراطي، وتسهيل انتقال القيادة من الحرس القديم الى الحرس الجديد. لماذا؟ لأنه تحّول خلال العقود الثلاثة الماضية الى رمز وطني يحظى وحده بإجماع الشعب الفلسطيني عليه، كما بينّت ذلك الانتخابات واستطلاعات الرأي. و في حال غيابه الآن بسبب الموت او الاستشهاد، لن تستطيع "فتح" الحفاظ على وحدتها التنظيمية حتى ولو بشكل هش. وهذا يعني أن عرفات هو المشكلة والحل في آن. وإذا ما دل هذا التناقض على شيء، فهو يدل على مدى عمق المأزق الفتحاوي. إلى أين "فتح" من هنا ؟ ثمة ثلاثة اجتهادات. الاول، يقول أن لعبة السلطة والنفوذ والمال، إضافة الى التدخلات الخارجية الكثيفة، ألحقت عاهات دائمة في جسم الحركة وعقلها. ولذا فهي من الان فصاعدا ستبدأ انزلاقها السريع نحو هاوية التهميش التاريخي والعجز عن المبادرة الاستراتيجية. والثاني، يرى أن الحركة ستكون قادرة بعد حين على تجديد نفسها لسبب بسيط: ليس هناك خيار امام الشباب الوطني الفلسطيني القابع تحت الاحتلال والاذلال سوى اعادة اختراع حركة تحرره الوطني باستمرار. والرهان كبير على مروان البرغوتي وبعض فصائل "كتائب الاقصى". ثم هناك الاجتهاد الثالث، الذي يرى أن "فتح" لن تذوي تماماً ولن تشفى تماماً. إنها ستتأرجح حتى وقت طويل بين السقوط والنهوض، الى أن تبرز زعامة اخرى تتمتع بالكاريزما والرؤية التاريخية و"الموهبة" الديموقراطية، لإعادة وضع قطار فتح على السكة التي انحرف عنها. أي من هذه الاجتهادات على حق؟ الخياران الثاني والثالث كانا سيبدوان مغريين للغاية، خصوصاً مع وجود قائد كمروان برغوثي، لو ان "فتح" هي اللاعب الوحيد على الساحة الفلسطينية. لكنها ليست كذلك. هناك حركة "حماس" التي سجلّت استطلاعات الرأي الاخيرة تفّوق شعبيتها للمرة الاولى على شعبية "فتح" 26 في المئة في مقابل 24 في المئة. كما هناك أيضا العديد من الحركات التاريخية الفلسطينية، على رأسها الجبهة الشعبية، التي لا تزال قادرة على جذب اطراف قد تغادر "فتح". وهذا المعطى بالتحديد، أي وجود بدائل ل"فتح"، قد يكون العامل الابرز الذي سيؤدي الى انفراط عقد هذه الاخيرة، في حال فشلت الجهود الراهنة لإخراجها من ورطتها. وهذا ما ألمح إليه رجل دين فلسطيني شاب مقرب من "حماس" هو خالد سليمان، الذي أبلغ "نيويورك تايمز"، أن "تناقضات "فتح" الداخلية بدأت تمزقّها. إنها الان على مفترق طرق". ثم ألمح سريعا ان البديل موجود وجاهز، في حال انهيار هذه الاخيرة. حرب 1948 هذا على مستوى مستقبل عرفات و"فتح". لكن ماذا عن المستوى الآخر: مستقبل القضية الفلسطينية؟ حين أعلن شارون قبل أشهر أنه "يسعى لاستكمال حرب 1948"، لم يصدقه أحد. لكن ها هو الآن يثبت للجميع بأنه كان يعني ما يقول، ويقول ما يعني. استراتيجية شارون، كما بات معروفاً، استهدفت نسف ما تبقى من عملية السلام التي انطلقت في اوسلو قبل نحو عشر سنوات، وفرض حل "موقت طويل الامد" وفق تعبير شارون، يقوم على رسم حدود جديدة تبتلع بموجبها إسرائيل نصف الضفة وكل منطقة القدس. لكن، ولكي تنجح هذه الاستراتيجية، يجب ان تكون هناك حرب. ولكي تنجح هذه الحرب، يتعّين توريط كل الاسرائيليين والاميركيين بها. وهنا أطل خيار تصفية حماس برأسه بصفته الخيار الامثل. فهي منظمة تصّنفها إدارة بوش بأنها إرهابية. وهي مسؤولة عن مقتل 400 إسرائيلي وجرح أكثر من ألفين في عملياتها الاستشهادية. وفوق هذا وذاك، لا أحد في الولاياتالمتحدة مستعد لقبول ولادة دولة أصولية راديكالية في غزة. في إطار هذه الاستراتيجية، تمكّن شارون بالفعل من إعادة عقارب الساعة 56 سنة كاملة الى الوراء. وهذا تم على الجبهات كافة في آن. فعلى الجبهة الداخلية الاسرائيلية، كانت الحركة الصهيونية تشهد انتعاشاً مفاجئاً بعدما أسفر مشروع شارون عن إعادة فرز الشارع السياسي الاسرائيلي على أسس جديدة. فهو خلق كتلة وسطى ضخمة لا تعارضها سوى كتل هامشية على أقصى اليسار واليمين "تقبل" بإبتلاع نصف الضفة وكل منطقة القدس الكبرى "فقط". وعلى الجبهة الاميركية، كان بلفور البريطاني يولد من جديد بلكنة أنكليزية أميركية هذه المرة، ويعيد، حرفاً بحرف، تكرار تجربة أوائل القرن العشرين في أوائل القرن الحادي والعشرين: وضع الارادة الغربية في خدمة إرادة الحركة الصهيونية، خصوصاً في مجال رسم حدود الوطن القومي اليهودي في فلسطين. وهكذا خرج بلفور القرن الحادي والعشرين الرئيس بوش ليعلن حق الوطن القومي اليهودي في التمدد الجغرافي على كل أراضي الضفة الغربية، ولا حق الفلسطينيين لا في العودة الى وطنهم ولا حتى في إقامة دولة صغيرة قابلة للحياة. وهنا كان شعار "غزة اولاً واخيراً" يطرح ضمنا بكونه أقصى ما يمكن ان تقبل به الارادة الغربية الجديدة. والآن، وبعدما نجح شارون في تجديد وعد بلفور وتمديده، لا شيء سيمنعه من محاولة تصحيح ما ارتكبته الحركة الصهيونية مما تعتبره "أخطاء" في حرب 1948. وهذا يشمل: 1- وضع مشروع نقل فلسطينيي 1948 الى الضغة الغربية على نار حامية، تحت شعار تعديل الميزان الديموغرافي بما يحفظ يهودية الدولة الاسرائيلية. 2- مبادلة الاراضي بين الدولة الاسرائيلية وبين الدويلة الفلسطينية العتيدة، على ان يتضمن ذلك تحريك السكان الفلسطينيين من مناطقهم الراهنة، وتثبيت السكان الاسرائيليين في أماكنهم الحالية. 3- محاصرة قطاع غزة وبعض المناطق المحدودة في الضفة، التي قد يجري اخلاؤها، جواً وبراً وبحراً، بما يؤدي الى جعلها ساقطة عسكرياً، ومفتقدة الى أي سمة من سمات السيادة. 4- ثم هناك المشروع الشاروني الابدي بأن تكون فلسطين كلها هي الدولة الاسرائيلية، والاردن كله هو الدولة الفلسطينية. وعلى رغم ان مثل هذا المشروع لا يبدو وارداً الآن، الا انه قد يرد في كل لحظة، إذا ما تواصل انفجار العراق وباقي انحاء المشرق العربي. هذا عن المشروع الشاروني. فماذا عن المشروع الفلسطيني المقابل؟ قد يبدو القول في الفوضى الراهنة بأن الفلسطينيين لا يملكون خياراً آخر سوى مواصلة المقاومة وإعادة إختراع حركته التحرر الوطني الفلسطيني، أمراً أقرب الى الشعر الرومانسي منه الى التحليل العلمي. لكن مع الفلسطينيين، الشعر الرومانسي قد يكون هو نفسه بالفعل النثر العقلاني، للأسباب الآتية: الاول، أنهم لا يملكون في الواقع بديلاً آخر غير الانتفاض. البطولة هنا ليست خيارا. إنها مصير وقدر، لأن بديلها الوحيد هو العبودية، والاذلال الوطني والشخصي، والاعتقال في سجن كبير وراء أسوار جدار الفصل، وقواعد الاحتلال، ومستعمرات الاستيطان. والثاني، ان الشعب الفلسطيني أثبت طيلة السنوات المئة الماضية أنه يمتلك غريزة مقاومة مدهشة، لم تنجح كل الاجراءات القصوى، كالتشريد والاقتلاع والتهجير، في ان تفت من عضدها. وهذا واقع أدركه الصهيونيون أنفسهم، الذين اكتشفوا ان استخدام القوة المدمّرة لم يؤدِ الى إطفاء الانتفاضات الفلسطينية بل على العكس الى إشعال لهيبها. وهذا يعني أن الصراع سيستمر، سواء في هذا الشكل او ذاك. سواء مع حركة "حماس" أو مع حركة "فتح" متجددة، او حتى مع منظمة تحرير فلسطينية تنبثق من تحت رماد أوسلو. هذه تبدو حتمية. لكن ما يجب أن يكون حتمياً أيضاً، هو أن يعمل الفلسطينيون على تحويل فترة الصعوبات الخطيرة الراهنة الى فرصة تأمل وتفكير وإعادة بناء. الى مناسبة لطرح أسئلة جوهرية مثل: كيف يمكن التعاطي مع الوضع الدولي والاقليمي الجديد؟ ما نقاط الضعف في الدولة الاسرائيلية التي أغفلتها حركة التحرر الفلسطيني في معاركها السابقة، والتي بالتركيز عليها يمكن النيل من "صمود" الاسرائيليين ؟ ما برامج العمل الواضحة التي يمكن ان تحقق الاجماع الوطني الفلسطيني في هذه المرحلة؟ هذه الاسئلة لا يجب أن تعني بالضرورة وقف العمل العسكري، بما في ذلك الهجمات الاستشهادية. إنها تعني فقط وضع الامور في نصابها، حيث تكتيك العسكرة يكون في خدمة إستراتيجية السياسة، لا العكس. الفلسطينيون لن يضيّعوا الطريق، لأنه ليس أمامهم سوى طريق واحد: طريق البطولة. وهذا ما لم يدركه الاسرائيليون والاميركيون، الذين يحتفلون الآن احتفالاً رغائبياً بالنصر الاسرائيلي والهزيمة الفلسطينية