هل نجحت إسرائيل في تصدير حربها الأهلية الى العرب والفلسطينيين؟ يبدو أن الأمر كذلك، للوهلة الأولى على الأقل. فالصراع على السلطة والثروة والنفوذ انفجر بين فلسطينييغزة، وسط آمال إسرائيلية كبيرة بأن يتمدد الانقسام قريباً ليصبح بين غزة والضفة، وبين فلسطينيي الخارج وفلسطينيي الداخل. فمشروع الانسحاب من غزة، الذي فجّر هذه التناقضات الداخلية الفلسطينية، هو نفسه الذي فجّر علنا أيضاً التناقضات الاردنية - الفلسطينية، ربما للمرة الأولى منذ العام 1974، حين أعلن المللك حسين فك الارتباط بين الأردن والضفة. فقبل أيام فاجأ الملك عبدالله الثاني الجميع في الشرق الاوسط باتهامه السلطة الفلسطينية أو بعضها على الأقل بأنها "تقبل اليوم ما كانت ترفضه بالأمس باعتباره خيانة. كما انها السلطة او بعضها تتقدم بمطالب متغيّرة دوماً حول عدد اللاجئين الذين يجب ان يسمح لهم بالعودة الى إسرائيل، وبمطالب أكثر تغيراً حيال الأراضي. في البداية، تمحورت القضية حول إعادة 98 في المئة من الاراضي الفلسطينيةالمحتلة، والآن تدور حول أقل من 50 في المئة من هذه الارض. ولا نعرف كم ستكون النسبة بعد سنة أو سنتين من الآن". هكذا تكلم الملك عبدالله. وهو لم يكن لينطق بهذا الكلام الخطير لو لم يكن يشعر بقلق خطير. قلق مم؟ إما من إتفاقات او مفاوضات سرية، يقبل بموجبها الفلسطينيون ما تعرضه عليهم الآن تل أبيب وواشنطن: انسحاب كامل من غزة، ونصف أو حتى ربع إنسحاب من الضفة الغربية. أو الخشية من أن تؤدي الجهود الراهنة لاعادة تعويم الرئيس عرفات الى أثمان باهظة، تتمثل أساساً في قبول الاخير بشعار "غزة أولا وأخيراً" كأمر واقع، الأمر الذي قد يمّهد ل"تسفير" ترانسفير مليون فلسطيني من الضفة الى الأردن، وإحياء شعار الليكود حول كون الأردن هو فلسطين. في مقابل هذه "الحروب الاهلية" العربية، تبدو إسرائيل في حال سلام أهلي. فالمفاوضات تجري على قدم وساق لتشكيل إما حكومة وحدة وطنية يشارك فيها حزب العمل، او حكومة طوارئ وطنية يدعمها العمل من خارج. والحصيلة في كلا الحالين واحدة: إجماع وطني إسرائيلي على المضي بمشروع غزة الى النهاية. هذا الاجماع يفترض أن يكون حدثا تاريخيا. فهو سجّل تبني حزب الليكود لكل طروحات حزب العمل حول المسألة الفلسطينية، بما في ذلك خرق هذا التابو المحّرم في الليكود المتعلق برفض الانسحاب ولو إنش واحد من أرض "إسرائيل الكبرى". ولكي ندرك مدى التطابق بين خطط شارون الراهنة في فلسطين، وبين تلك التي أقرها حزب العمل قبل وقت غير قصير، تكفي مراجعة المحاضرة المهمة التي أدلى بها إيهود باراك أمام مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الادنى في 19 تموز يوليو 2001. الأفكار الرئيسية في المحاضرة: - الانتفاضة الفلسطينية الراهنة إرهاب بإرهاب وهي تشكل تحدياً كبيراً لاسرائيل وأوروبا ول"حضارتنا". - لا يجب ان نسأل عمن سيخلف عرفات، تماماً كما لم نتساءل عمن سيخلف معمر القذافي وصدام حسين. يجب ان نقف بحزم وقوة وثقة حتى ولو استمر ذلك لسنوات، الى أن يبرز أنور السادات فلسطيني. - على اسرائيل تجنب مصيرين: الاول المصير البوسني - البلفاستي، اي الجاليات التي تتقاتل وتنزف لمدة قرون من دون أية حلول في الافق. والثاني المصير الجنوب أفريقي، اي العنصرية او الدولة ثنائية القومية. وهذا التجنب لن يصبح ممكناً الا اذا قامت اسرائيل برسم حدود لها تضمن استمرار وجود غالبية يهودية لأجيال عدة مقبلة، اضافة الى ضمان هوية الاسرائيليين وثقتهم بأنفسهم. ومثل هذه الحدود يجب ان تضم اليها أكثر من 80 في المئة من مستوطني الضفة وغزة، وشريطاً محدداً على طول نهر الاردن كمنطقة آمنة في مواجهة الجبهة الشرقية، ومواقع جبلية تستخدم للاتصالات والرقابة. واذا ما عنى ذلك الضم المباشر لنحو 20 في المئة من مساحة الضفة الغربية فليكن. خطة باراك هذه، التي تتضمن بالطبع "رمي غزة في البحر" أي إخلاؤها كما كان يتمنى دوما شمعون بيريز هي نفسها الآن خطة شارون معدلّة. وهذا هو الاساس الحقيقي للتوافق السياسي الراهن بين الليكود والعمل. ف"غزة أولاً" يجب ان تكون "غزة اخيراً" لكلا الطرفين. والمشروع الذي وضعه أخيراً مستشار الامن القومي الاسرائيلي الجنرال غيورا أيلاند وتعاطف معه حزب العمل والقاضي بخلق ما أسماه "غزة الكبرى"، من خلال تبادل الاراضي في صحراءي سيناء والنقب بين مصر واسرائيل بهدف توسيع رقعة "الدولة الفلسطينية" في غزة، يكشف بشطحة قلم واحدة مدى التطابق بين الطرفين. تحت السطح هل تعني هذه التطورات أن كل الامور تسير ما يرام بالنسبة الى اسرائيل؟ فوق السطح نعم. تحت السطح لا. إذ وراء أكمة التوافق الشاروني - البيريزي على غزة، ثمة غابة كاملة من الصراعات والتناقضات الاسرائيلية التي يختلط فيها الحابل بالنابل، والتي تجري فيها الاستعدادات لحرب الجميع ضد الجميع. فالعديد من المحللين الاسرائيليين يجمع على ان تلاحم شارون وبيريز في غزة، سيؤدي الى إنحلال الليكود وربما العمل أيضاً. صحيح انه قد يولد من هذه "الزيجة" تيار وسطي جديد، الا ان الصحيح أيضاً أن مثل هذا التيار سيكون موقتاً، وسيقع سريعاً أسير التجاذبات العنيفة بين قوى التطرف في اليمين واليسار التي تكتسح الان المجتمع الاسرائيلي كإعصار عنيف. آثار أقدام هذا الاعصار تبدو مبعثرة في كل مكان هذه الايام. فقد نشرت جامعة حيفا الشهر الماضي استطلاعاً للرأي جاء فيه أن غالبية الرأي العام اليهودي 7.63 في المئة، يريدون من حكومتهم تشجيع "العرب الاسرائيليين" فلسطينيو 48 على مغادرة إسرائيل. والمغادرة هنا تعبير ملطّف عن الشعار الاكثر شهرة هذه الايام في الدولة العبرية: "الترانسفير". كما أشار الاستطلاع نفسه الى أن ربع سكان إسرائيل قد يصوّتون لمصلحة أحزاب مثل "كاتش" التي ترفع لواء الترانسفير، إذا ما جرت الانتخابات اليوم. هذه الأرقام المتطرفة ترعرعت في حضن تطورين آخرين أكثر تطرفاً: الأول، الدلائل على أن اليمين المتطرف الأكثر عنصرية، بات يستقطب نحو 50 في المئة من يهود إسرائيل، فيما اليسار الاقل عنصرية بما في ذلك حزب العمال لا يحوز سوى على 20 في المئة. أما النسبة الباقية فتعتبر نفسها في الوسط بين ماذا وماذا؟ والثاني، أن الممارسات العنصرية ضد عرب 1948 كما أوضح تقرير مركز "موساوا" الاسرائيلي، تفاقمت الى حد كبير خلال السنتين الماضيتين. وهذا شمل العنف وخطب الكراهية العنصرية، والعداء، والتحريض والتمييز، وصولاً الى عمليات القتل التي يقوم بها مواطنون إسرائيليون ضد المواطنين العرب، بحماية قوات الأمن الاسرائيلية. لقد بحث إسرائيل شاحاك، وغيره، عن دوافع وجذور هذا التطرف، فوجدوها في كل من الايديولوجيتين الصهيونية والدينية اليهودية المتطرفة. وهذا صحيح بالطبع. لكن الصحيح أيضاً أن وجود دولة إسرائيل نفسها، بقوتها العسكرية المتفوقة وأسلحتها النووية المتطورة واقتصادها الحديث الناجح، دفع الجنون العنصري الى أقصاه. وهذا مبدأ معروف في علم النفس: حين يمتلك الضعيف والخائف قوة مفاجئة، يصاب بكل موبقات القوة، من مرض العظمة الى أنفصام الشخصية، مروراً بكل لعنات السادية تعذيب الآخرين والمازوشية تعذيب الذات. معظم يهود إسرائيل اليوم مرضى بهذه الموبقات، أو على الاقل بمعظمها. ولذلك فهم عنيفون وعميان في آن. عنيفون، لأنهم يشعرون بقوتهم، ويريدون الاستمتاع بممارسة هذه القوة حتى الثمالة، كما يفعل كل المرضى النفسيين "السايكوباث" psychopath المعادين للمجتمع. يعّرف قاموس "هيريتاج" الاميركي السايكوباث بأنه: شخص يعاني من اضطراب حاد في شخصيته. وهذا يتجلى أساساً في سلوكه المعادي للبشر او المجتمع وهم عميان، لانهم لا يدركون أن هذه القوة نفسها ستكون السبب في دمارهم. ولو لم يكن الأمر على هذا النحو، أي لو لم يكن يهود إسرائيل قد أصبحوا بالفعل "سايكوباث"، لكنا الان نسمع كثيرين منهم يتساءلون: لماذا مّر 60 عاماً على قيام دولتنا، التي كان يفترض ان تقّدم لنا السلام النهائي والامن الكامل، من دون أن يتحقق لا السلام ولا الأمن؟ وهل نحن مستعدون للعيش 60 سنة أخرى في لجج الحروب والعنف؟ هذا النوع من الاسئلة لا يبدو وارداً هذه الايام. فمع طالع كل صباح، تزداد غالبية اليهود تطرفاً. ومع مغيب كل شمس، تتفاقم لديهم تظاهرات جنون العظمة. وحين يأتي موعد النوم، تبقي هذه الغالبية أعينها مفتوحة تحّسبا للدفاع وتحفّزا للهجوم. ولكي لا يبقى كلامنا هنا نظرياً أو قفزاً الى مبالغات لا أساس لها، لنتوقف قليلا أمام المعطيات الآتية: 1- تأكيدات أجهزة الاستخبارات الاسرائيلية المتكررة بأن هناك نحو 200 يهودي متطرف يعدون العدة لهجمات كاسحة يدمرون خلالها المسجد الاقصى، إما بالطائرات أو السيارات المفخخة. 2- لا بل تتخوف هذه الأجهزة نفسها من احتمال قيام بعض المتطرفين اليهود بغارات جوية مدمّرة على مدن عربية هي رموز اسلامية كبرى. 3- الغليان المدهش الذي تشهده الدولة العبرية حالياً، حيث غلاة اليمينيين الليكوديين القوميين يتصارعون مع مجانين اليمين الاصوليين الدينيين على أفضل وسيلة لتنفيذ التطهير العرقي ضد الفلسطينيين. الاوائل يريدون إخلاء غزة وتحويلها الى سجن كبير بهدف تسهيل طرد الفلسطينيين من الضفة، والاخيرون يريدون أن يتم الطرد فوراً وبالجملة من غزة والضفة معاً. وماذا أيضاً؟ هناك المعطيات الاضافية الآتية التي أوردها ماكسيم غيلان، الكاتب والصحافي والشاعر الاسرائيلي المعروف، في مقابلة مع دورية "إيكزيكيوتيف إنتليجنس ريفيو": حول شارون وخطة الفصل: شارون أهم ممثل للمتعصبين اليهود. لكنه في الوقت ذاته أهم استراتيجي في إسرائيل. إنه يمتلك رؤى بعيدة. في أوائل الثمانينات، كان شارون يريد احتلال دول النفط العربية، وكان سيفعل ذلك لولا ان الولاياتالمتحدة أقنعته "بالاكتفاء" بغزو لبنان. وهو الآن عاد الى طموحه القديم: إعادة رسم الخرائط في شمال إفريقيا وجنوب غربي آسيا وكل العالم العربي الاسلامي. أما بالنسبة الى خطة الفصل، فهي في الواقع غير موجودة. إذ أن الجيش الاسرائيلي سيبقى في غزةوالضفة الغربية وعلى الحدود مع مصر في منطقة فيلادلفيا، وهو سيواصل ضغوطه من هناك لطرد الفلسطينيين. الخطة تستهدف فقط تبرير ابتلاع الضفة وشطرها في الواقع الى نصفين. الليكوديون لا يفهمون خطة شارون على حقيقتها بسبب عماهم الايديولوجي. لكن حزب العمل الذي يمثل معسكر السلام الصهيوني يفهمها جيداً. فهو يعرف أنها لن تؤدي الى الاستقلال الفلسطيني، بل الى دولة فلسطينية تسيطر عليها إسرائيل وأميركا. وهذا سيحقق لاسرائيل الاستقرار الامني والازدهار الاقتصادي، مع وضع الفلسطينيين في القفص. الجيش الاسرائيلي: في إسرائيل هناك مجتمع يتحكّم الجيش خصوصاً هيئة الأركان بمصائره السياسية والاقتصادية والدينية. في هذا الجيش توجد أخطر عصبة من الرجال على وجه الارض. ليس هناك على وجه البسيطة قادة وجنرالات متطورون للغاية ويمتلكون كميات هائلة من أسلحة الدمار الشامل، كما في إسرائيل. أنهم متطرفون للغاية، وقوميون متعصبون للغاية. هناك انظمة مجنونة أخرى في العالم. لكن ليس كما النظام الاسرائيلي. فهذا الاخير يعتبر "العالم كله ضدنا"، ويعلّم أطفاله أغنية تقول هذا الشيء بالذات. ليس ثمة دولة أخرى كإسرائيل تهدّد بتدمير العالم من خلال حرب نووية، أو من خلال ارتكاب انتحار جماعي عقدة الماسادا. نعم، الاسرائيليون يستطيعون تدمير العالم، أو إشعال حرب عالمية تدمره. والمؤسسة العسكرية الاسرائيلية تمتلك الوسائل الضرورية لذلك. إسرائيل وأميركا: كيف وصل جنرالات إسرائيل الى هذا الجنون والتعصب؟ ليس فقط بسبب مرض العظمة - الاضطهاد، بل لأنه منذ 50 عاماً تم خلق وضع عاش فيه المجتمع الاسرائيلي على المساعدات الخارجية. في البدء كان يهود العالم هم الذين يساعدون إسرائيل على تعزيز مواقعها، لكن خلال الاربعين سنة الماضية، كانت المساعدات تأتي أساساً ورسمياً من الولاياتالمتحدة في شكل مساعدات عسكرية يقال أن قيمتها 3.1 بليون دولار سنوياً. لكن الرقم الحقيقي يتراوح بين 16 الى 17 بليون دولار سنوياً، وهذا خلق علاقة عضوية تقوم إسرائيل بموجبها بتسلم الاموال لشراء الطائرات الدفاعية - الهجومية والتكنولوجيا والمعلومات الاستخبارية، ثم تستخدم هذه الأموال لتمويل الشركات الاميركية الكبرى، عبر وسطاء في وزارة الدفاع أصبحوا من أصحاب الملايين والبلايين. هذه العلاقة تستند في بقائها على ضرورة وجود حرب دائمة. الاسلحة والتكنولوجيا العسكرية المتطورة تستدعي الحرب، وهي تفيد الجانبين الاسرائيلي والاميركي. والحال ان هيئة الاركان الاسرائيلية وقيادة الطيران لها مصلحة خاصة في استمرار حال الحرب في الشرق الاوسط، لأن سلطتها وأرباحها ستتبخر في حال السلم. التعصب والهجرة المتعصبون الاسرائيليون في حال تحالف تام الآن مع الفاشيين الجدد في واشنطن الذين يطلق عليهم إسم "المحافظون الجدد". إنه تحالف بين قيادتين متعصبتين وشرهتين، مدعومتين بمعسكرين يضمان ملايين المجانين: الاصوليون المسيحيون في أميركا والاصوليون اليهود في إسرائيل، والصناعة الحربية والمؤسسة العسكرية في أميركا، والصناعة الحربية والجيش في إسرائيل. "معطيات الجنون" التي أشار اليها ماكسيم غيلان، كانت لا تني تتراكم منذ ان تم اغتيال رئيس الوزراء الاسرائيلي اسحق رابين في العام 1995، على يد أصولي متعصب يدعى ييغال عمير. وهذا الأخير كان شاباً ترعرع في المؤسسات الدينية اليمينية المتطرف. وبعد اغتيال رابين حظي عمير باستقبال الابطال، ليس فقط في اسرائيل بل أيضاً بين بعض اليهود الاميركيين. من الشخصيات التي تأثر بها عمير، الدكتور باروش غولدشين من مستعمرة كريات أربة الذي قتل 29 فلسطينياً في صلاة الفجر في كهف البطاركة في 25/2/1994. كما تأثر بنوام لفنات الذي تتلمذ في المدرسة التلمودية التي تتخذ العنصرية مبدأ لها. ومنذ اغتيال رابين، ازدادت حدة الخطاب المتطرف في اسرائيل. ففي ندوة حول مكانة المرأة أمام 60 جندياً، قال الملازم أول غامليل بيريس ان الرجال اليهود يشكرون الله لأنه لم يخلقهم نساء. وذكرت "نيويورك تايمز" ان احدى الجنديات الشابات، وهي ابنة حاخام اصلاحي، تحدته قائلة: "ربما عليك ان تشكر الله الذي جعل الناس كما هم". فأجابها: "لا أعتبر الاصلاحيين والمحافظين يهوداً". وجرت حادثة مشابهة مع الحاخام ريشارد بلوك، تم خلالها التهجم على التيار الاصلاحي لأنه "جمع ملايين اليهود الذين يعتبرون أسوأ من النازيين". كما ِنشر اعلان في الصحف المتدينة في اسرائيل، صادر عن القادة المتدينين الاصوليين أمثال الحاخام شالوم يوسف الياشيف والحاخام اوفاديا يوسف المرشد الروحي لحزب شاس، يشير الى ان التيارين الاصلاحي والمحافظ "يدمران الديانة اليهودية ويحاولان حرق الارض المقدسة". ويتابع الاعلان انه "لن يتم الاعتراف بهذين التيارين مهما كان وفقاً للتوراة، كما يمنع منعاً باتاً التفاوض مع هؤلاء المخربين الذين يزيفون التوراة". وقد توغلت حال عدم التسامح في تركيبة الحياة الدينية المؤسساتية الخاضعة لسيطرة الدولة. ويقول الحاخام ميشال مارمور، عميد جامعة الاتحاد العبري ومدير معهد الديانة اليهودية في القدس: "تشكل اليهودية اليوم في اسرائيل علامة تجارية مسجلة. الاسرائيليون الآن باتوا يخافون كل ما هو مختلف، سواء أكان امتداداً مختلفاً لليهودية أم عادات دينية أخرى. وعلى سبيل المثال، 25 في المئة من المهاجرين الثمانمئة ألف الذين جاؤوا الى اسرائيل من الاتحاد السوفياتي السابق في العقد الأخير، لا يعتبرون يهوداً، على الأقل في عرف المؤسسة الدينية الاصولية". لقد وصف الكاتب الاسرائيلي صموئيل هالبرت هذه الظاهرة بأنها "مشكلة أمنية قومية"، ستؤدي الى تفاقم الانقسامات الداخلية الحادة بين من يريدون إسرائيل دولة دينية أكثر، وبين من يريدون الانتماء الى مزيج من العلمانية والطائفية التي صنعت منه إسرائيل في البداية. ويعتقد المفكر البارز أحمد إقبال، ان إسرائيل تقف بسبب هذه الانقسامات على شفير حرب أهلية. فالخلاف في رأيه بين المتشددين والمحدثين معقد بعدد من العوامل الأثنية. وثمة انقسامات أخرى بارزة تساهم في التفكك، أبرزها الشرخ بين العسكرتاريا والرعاية الاجتماعية، حيث بدأت الأولى تطغى على الثانية. لا بل يتحدث إقبال عن "انهيار" في السياسات الاسرائيلية، برز حين قام يهودي، هو ييغال عمير، بقتل يهودي آخر "باسم الرب" هو إسحق رابين. قد تتضمن أحكام إقبال بعض المبالغة. بيد أن ذلك لا ينفي حقيقة أن إسرائيل تمر بالفعل في مرحلة انتقالية خطرة يخشى فيها بعض المفكرين الاسرائيليين أن تشهد تآكل الديموقراطية الاسرائيلية، أو وقوع إسرائيل بين براثن الفوضى السياسية والاضطرابات الأثنية. ويقول هنا المؤرخ الاسرائيلي ديفيد أوهانا، في دراسة بعنوان "آخر الاسرائيليين"، أن الدولة العبرية تحّولت إلى إقطاعات وجزر، كما أن لحمها تقطع إرباً إرباً، فكل مجموعة باتت تتحدث بشيفرتها السرية الخاصة، وتسور الأراضي والمناطق الخاصة بها، وترفع شعار "ومن بعدي الطوفان". وهذا توصيف دقيق إلى حد بعيد. فالأيديولوجيا الصهيونية، المستندة إلى مفهوم الأثرة والتضحية بالذات لمصلحة المجموع، وهنت وتراجعت، وبدأت تحل مكانها "قبلية" جديدة تقوم الآن بنسف الوحدة الوطنية الاسرائيلية بشكل منهجي وعميق. تجليات هذا التطور واضحة في كل مكان : فالاسرائيليون باتوا منغلقين على "قبائلهم الأثنية"، والدينية، والمهنية. وهذا التطور يحدث وسط تفاقم خطير للتوترات في مجتمع مدهش في مدى تنوعه، حيث 20 في المئة هم من "الصاب" اليهود المولودون في اسرائيل، و20 في المئة من الاتحاد السوفياتي السابق، و20 في المئة من العرب، و25 في المئة من يهود الدول العربية. لماذا يحدث ما يحدث في إسرائيل؟ هنا ربما نكون وجهاً لوجه، مع أحد أبرز قوانين الهوية وعلم الاجتماع البشري الذي يقول انه حين تتراجع المخاطر الأمنية - الوجودية المحيقة بمجتمع ما، "يتفرغ" أفراد هذا المجتمع لمقاتلة بعضهم البعض، وتفلت التناقضات الداخلية من عقالها. حدث هذا لكل المجتمعات البشرية في كل العصور. وهو يتجسد الآن أكثر ما يتجسد في إسرائيل، حيث التناقضات والصراعات التي قمعت أو أرجئت طيلة السنوات الستين الماضية بداعي الحفاظ على الأمن والوجود، بدأت تتفجر تباعاً، تماماً كما حدث في الاتحاد السوفياتي السابق بعد ضعف ثم انهيار الأيديولوجيا الشيوعية. وإذا ما استمر هذا الانحدار لمفهوم السياسة في إسرائيل، قد لا يطول الوقت قبل أن نسمع الأصوات التي ستطرح السؤال الوجودي الكبير: لماذا إسرائيل؟ والاجابة عن هذا السؤال، قد لا تكون هذه المرة كما كان الأمر طيلة نصف القرن المنصرم همساً خجولاً، بل بالعنف والدم المحببين للغاية الى قلب جابوتنسكي وبيغين وبن غوريون. فلننصت جيداً، اذاً، الى أصوات الخلافات الداخلية في الدولة العبرية، التي تختفي الآن وراء الاجماع الشاروني - البيريزي الراهن ضد الفلسطينيين