لم تكن مرت سوى ايام قليلة على "النقلة" النوعية، العنصرية بامتياز، التي قدمها الرئيس الاميركي جورج دبليو بوش لصديقه رئيس وزراء إسرائيل آرييل شارون، بوصفه إسرائيل ك"دولة يهودية"، حتى بادرت الكنيست الاسرائيلية الى اصدار قانون يفتح الباب أمام عملية "تطهير عرقي" واسعة ضد الفلسطينيين الذين ما زالوا يعيشون في اراضي عام 1948، أو داخل ما يسمى بالخط الأخضر، على طريق تنفيذ استراتيجية الدولة الصهيونية للوصول الى "النقاء "العنصري الكامل للدولة. في خطابه في قمة العقبة 4 حزيران / يونيو 2003 قال بوش حرفياً: "إن الولاياتالمتحدة ملتزمة بقوة، وأنا ملتزم بقوة أيضاً، ضمان أمن اسرائيل كدولة يهودية تنبض بالحياة". ولم تكن تلك "النقلة" وحدها هي التي طمأنت شارون باعطائه ما اراد دائماً، بل ان بوش ضاعف طمأنة صديقه عندما أضاف قوله في الخطاب اياه: "ان للشعبين معاً، الفلسطيني واليهودي، حقاً في هذه الأرض المقدسة". وفي العبارة "نقلة" نوعية أخرى، توسعية هذه المرة، ربما لم يتنبه اليها الكثيرون من المحللين العرب، لأنها تتفق مع نظرية إسرائيل عن الضفة الغربية باعتبارها "يهودا والسامرة التي هي جزء من ارض اسرائيل التوراتية"... وهي مقدسة، بهذه الصفة، من وجهة نظر شارون التي يوافقه عليها بوش كما تفيد كلماته! حول هذه النقطة، لا بد من التذكير بما قال المستشار القانوني الاسرائيلي الياكيم روبنشتاين حول "زلة لسان" شارون عندما استخدم كلمة "احتلال" في حديثه عن سكان الضفة، واعتباره ان ذلك يثير شكوكاً حول "حق اسرائيل التاريخي بأراضي يهودا والسامرة". كما لا بد من ملاحظة ان الادبيات الاسرائيلية تسمي الضفة، اما "يهودا والسامرة" أو "الاراضي" أو "الاراضي المدارة" أو "الاراضي المتنازع عليها". وهي لا تطلق عليها كلمة "الضفة الغربية" لأن ذلك - بحسب وليم سافاير في "النيويورك تايمز" - يجعل منها مجرد جانب آخر للضفة الشرقية وليس جزءاً من أرض إسرائيل التوراتية. والهدف من ذلك واضح: ادعاء حقوق توراتية بالاستيلاء على الضفة، أو أقله بالاستيطان فيها! وفي إطار هذا الادعاء، يمكن فهم سبب رفض شارون منذ البداية لاتفاقات أوسلو، وأيضاً سبب قيام أحد المتطرفين الدينيين باغتيال إسحق رابين لمجرد انه وافق، بموجب هذه الاتفاقات، على الانسحاب من بعض أجزاء الضفة. ما سبق هو، في أي حال، مجرد استطراد لتأكيد واقع إسرائيلي. لكن لنعد الى الموضوع الأساس. في القانون الذي أقرته الكنيست 18 حزيران/يونيو ان الفلسطينيين الذين يحملون الهوية الاسرائيلية، وهم حوالى مليون ونصف المليون يشكلون 20 في المئة من السكان، سيحرمون من الحق الانساني المعترف به دولياً - حق الزوج، وفي هذه الحال الزوج الذي يحمل الهوية الاسرائيلية، يمنح زوجته هذه الهوية اذا كانت الزوجة من أهل الضفة الغربية أو قطاع غزة. ومثله، طبعاً، حرمان الزوجة التي هي من سكان أراضي عام 1948، وتحمل إذاً الهوية الاسرائيلية، من ان تستفيد ضمن فترة زمنية معينة وتحت شروط محددة من حقها في منح زوجها هذه الهوية اذا كان الزوج من فلسطينيي الضفة والقطاع. في الأسباب الموجبة للقانون، ان هناك مئة ألف امرأة من الضفة والقطاع استفدن من هذا الحق بزيجاتهن من فلسطينيين من داخل الخط الأخضر منذ اتفاقات أوسلو في عام 1993، وأن من شأن ذلك في حال استمراره ان يؤدي الى تطبيق "حق العودة" من باب خلفي، فضلاً عما يسببه من اختلال ديموغرافي في اسرائيل. الا انه لا شك في ان اهداف القانون تتجاوز ذلك لتشكل عامل ضغط جديداً على العرب في داخل اسرائيل، اما للقبول مرغمين بمعاملتهم كلاجئين في ارضهم، أو للهجرة منها طائعين الى أرض الله الواسعة. "ترانسفير" كامل، ولكن تحت ستار قانوني هذه المرة، بهدف فرض تهجير ولو تدريجي للفلسطينيين في اسرائيل، وليس للفلسطينيين في الضفة والقطاع فقط كما جرت العادة! يؤكد ذلك ان الكنيست الاسرائيلية تناقش في الوقت ذاته مشروع قانون آخر، أكثر جلاء بالنسبة الى الهدف نفسه، هدف "الترانسفير"، تحت عنوان قضائي هو "طرد الغزاة". أما هؤلاء "الغزاة" فليسوا سوى بدو النقب الذين يقيمون على أرضهم وفي ممتلكاتهم منذ آلاف السنين - قبل قيام اسرائيل وبعدها وحتى الآن -، ومن شأن القانون ان يشرع طردهم من أرضهم وممتلكاتهم، على الطريق ربما لطردهم لاحقاً من اسرائيل كلها. كان هؤلاء، كما يقول النائب العربي في الكنيست محمد بركة، تعرضوا لاجراءات تعسفية على مر السنين الماضية، تارة تحت اسم قانون "الحاضر والغائب"، وتارة أخرى تحت اسم "المصادرة لمصلحة الجمهور" وتارة ثالثة تحت اسم "مصادرة الاراضي غير المستغلة"، لكنهم صمدوا في وجه ذلك كله وليس القانون الحالي الا ليجبرهم على الهجرة القسرية - القانونية هذه المرة - من ارضهم وممتلكاتهم الشخصية، ولاحقاً من اسرائيل كلها. لم تعتمد حكومات إسرائيل على الاساطير فقط "أرض الميعاد" و"اسرائيل التوراتية" وما الى ذلك ولا على الادعاءات السياسية فقط "أرض بلا شعب لشعب بلا ارض" وغيرها ولا على التشريعات التي يسنها الكنيست، "قانون الغائب" أو "المصادرة للصالح العام" لتبرير اغتصابها جزءاً من فلسطين التاريخية، ثم لتوسيع دائرة الاغتصاب لتشمل فلسطين كلها، بل انها لجأت الى ما يخطر وما لا يخطر في البال لمنع العرب الفلسطينيين الذين تمسكوا بأرضهم وممتلكاتهم ورفضوا الرحيل عنها، من ممارسة حقوقهم في المواطنية، وحتى من النمو الطبيعي سكانياً واقتصادياً واجتماعياً وعلمياً. لكن هؤلاء، على رغم ذلك، ناضلوا بكل ما أوتوا من قوة وصمدوا طوال أكثر من نصف قرن من القهر والتمييز العنصري ضدهم ليكونوا ما هم عليه الآن 20 في المئة من السكان، نواب في البرلمان، اساتذة في الجامعات، وكادرات علمية في الكثير من الشركات، مع إجادة للغة العبرية، لكن من دون التخلي عن لغتهم العربية وليشكلوا إذاً، كما يعترف القادة الاسرائيليون علناً الآن، كابوساً لإسرائيل وعقبة امام استراتيجيتها العنصرية لتكريس "النقاء" العرقي والديني والسياسي الصهيوني للدولة اليهودية. الانتفاضة الأولى، مطلع التسعينات، شكلت نوعاً من ناقوس الخطر بالنسبة الى إسرائيل عندما اكتشفت ان الرابط الوطني والقومي بين فلسطينيي الداخل - اسرائيل - وفلسطينيي الخارج - الضفة والقطاع وأرض الشتات - لا يزال بالقوة نفسها التي ظن الاسرائيليون انهم ضربوها نهائياً والى الابد. بل تبين ان هذا الرابط انما ازداد صلابة وثباتاً نتيجة القهر والتمييز والمعاملة الاسرائيلية لهم كمواطنين من الدرجة الثانية او الثالثة. أما الانتفاضة الحالية، وحرب الابادة الشاملة والوحشية التي قابلتها بها حكومة شارون، فقد كانت القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون. كشفت ذلك بجلاء الدعاوى القضائية، في الانتخابات النيابية الماضية، لمنع كل من النائبين عزمي بشارة وأحمد الطيبي من الترشح للكنيست، كما كشفتها في الفترة الاخيرة حملات الملاحقة والاعتقال الواسعة وما تبعها من اصدار احكام قاسية بالسجن ضد قيادات احزاب وجمعيات وتجمعات فلسطينية في اسرائيل، وها هي تبلغ ذروتها الآن بهذه التشريعات التي تمنع الحق في الهوية للأزواج والزوجات على جانبي الخط الأخضر، وتشرع طرد من يطلق عليهم وصف "الغزاة" من البدو العرب الفلسطينيين في النقب. لقد ناقشت نخب إسرائيلية، في كتابات ودراسات منشورة، ما قالت انه تناقض بنيوي وازدواجية في النظرية الصهيونية عن يهودية الدولة - اي عنصريتها الدينية - وديموقراطيتها - اي ليبراليتها تجاه الاديان والاعراق والألوان - في وقت واحد. والى جانب النواب العرب في الكنيست الذين رفعوا دائماً شعار "دولة لكل مواطنيها"، بديلاً لشعار "الدولة اليهودية"، وقف بعض اليسار اليهودي وحتى بعض اليسار الصهيوني اضافة الى من اطلق عليهم اسم "المؤرخون الجدد". لكن الادارة الاميركية الحالية برئاسة بوش و"المحافظين الجدد" في الولاياتالمتحدة بما لهم من نفوذ وسلطة على هذه الادارة، لديهم رأي آخر مختلف. انهم، الى جانب شارون وتكتل "ليكود" والاحزاب الدينية واليمينية المتطرفة، مع "الدولة اليهودية"، اي مع "دولة لبعض مواطنيها"... ولليهود منهم فقط. وليذهب الباقون الى حيث يشاؤون، او لا يشاؤون! لم يقل بوش في العقبة غير هذا الكلام، كذلك الحال بالنسبة الى القانون الذي أقرته الكنيست حول اكتساب الهوية والى مشروع القانون الآخر الذي يناقشه حول "طرد الغزاة" من أهل الارض الأصليين من البدو العرب... لم يقل. * كاتب لبناني.