على طريق الشمال الذي قطعه أشهر شعراء اليابان ماتسوا باشو 1644-1694 حمل المصور الياباني جونتشيرو نيشيماكي Junichiro Nishimaki كاميرته التي حورها كي تقترب في قدراتها التصويرية من العين البشرية، وذلك بالسماح لقدر قليل من الضوء بالمرور إلى الصندوق الأسود، فالكاميرا بوضعها هذا لا تلّم بالتفاصيل التي تجمعها عادة الكاميرا العادية بدقة، فالعين البشرية تحيط بجزء محدود من المشهد بدقة ويبقى محيط هذا المشهد مشوشاً، كما أن تفحص هذا الجزء من المشهد يستغرق وقتاً أطول من الوقت الذي تستدعيه نظرة عابرة شاملة. وقد لجأ نيشيماكي إلى هذا التحوير ليقترب كثيراً من تجربة باشو في رحلته الشهيرة التي عرفت من خلال أشعار الهايكو التي حملت عنوان "طريق الشمال الضيق الطويل". ففي رحلته هذه ابتعد باشو عن الأماكن المأهولة التي جال فيها سابقاً واستقبل بحفاوة بالغة، الأمر الذي صرفه عن الاستغراق في علاقته الحميمة بالطبيعة التي تشكل مادته الأولى في أشعاره. وهو بتوغله في طريق الشمال الضيق الطويل تفرغ كلياً لتجربة روحية صافية وعميقة تجلت بصورة رائعة في "وجوده" في الطبيعة بالمعنى الصوفي الذي نادى به كونفوشيوس وطبع به الروح اليابانية التي انعكست في شعر الهايكو الذي تشكل الطبيعة وفصول السنة وتقلبات المناخ مادته ولغته. الربيع يرحل بسرعة الطائر يبكي وتسيل الدموع في عين السمكة صوّر باشو وقفاته الروحية في محطات على طريق الشمال. لم تكن أمكنة أو استراحات. كانت صوراً عابرة تشكل الطبيعة تفاصيلها الكاملة، امتدت الرحلة بطول 2500 كلم قطعها ماشياً على قدميه في 150 يوماً لتشكل هذه المحطات علامات مهمة على طريق اليابان وثقافته، وهي، وإن عدت من أهم ملامح الأدب في عصر أيدو طوكيو حالياً، إلا أنها ارست تقاليد راسخة في الشعر الياباني تمتد إلى الزمن الحاضر. وبعد أربعمئة عام من رحلة باشو وسنوات طويلة قضاها نيشيماكي في التصوير الإعلاني، وهو عمل يتطلب براعة وخبرة إلى جانب استخدام أحدث التقنيات وأدق العدسات، وبعد النجاح الذي حققه في عمله هذا الذي يعني أساساً بالدقة والجمال البصري، يقترب المصور من الشاعر في الحاجة إلى استراحة روحية يتخفف فيها من أعباء الحياة اليومية العابرة. وقد حمل كاميرته "صندوق الصور بثقب الابرة" كما سماه، ليقطع طريق الشمال الطويل على دراجته الهوائية، ملقياً روحه بين أحضان الطبيعة في محطات توقف عندها باشو وأنصت بقلبه إلى الحوار الذي دار بين الشاعر والطبيعة... وليصور هو الآخر بقلبه محطاته. أمكنة مرّت عليها العين فصوّرها القلب