كان الولاء المطلق الذي أعلنه رئيس الوزراء الاسباني خوسيه ماريا أثنار للرئيس جورج بوش، قبيل اعلان الحرب على العراق، يتناقض بشكل صريح مع السياسة الخارجية التقليدية التي عُرفت بها بلاد سرفنتس، والمبنية على خليط حكيم من الحذر والتوازن، منذ سقوط الفرانكية، الى انخراط متزايد في الاطار الأوروبي. وهو ما كان يعمل عليه بقوة سلفه الاشتراكي فيليبي غونزاليس. هناك سببان أساسيان دفعا أثنار الى التزام الخط الأميركي في الحرب على العراق: الأول، اعتباره ان لا فرق بين الارهاب الذي تمارسه منظمة "إيتا" الباسكية، وهو ارهاب محلي، والارهاب الدولي الذي يمارسه تنظيم "القاعدة"، وهو ما أعلنه غداة 11 أيلول سبتمبر. وأثمر موقفه هذا دعماً أوروبياً وتعاوناً مشتركاً لمكافحة الارهاب، كان للرئاسة الاسبانية للاتحاد الأوروبي عام 2002 الفضل الكبير فيه. أما السبب الثاني، فيعود الى التناغم الطبيعي بين شخصيته وشخصية الرئيس بوش الذي "أهدى" اسبانيا زيارته الأوروبية الأولى. فالزعيمان يتقاسمان القيم نفسها وكذلك نظرتهما الى المجتمع. كما ان التحالف مع الولاياتالمتحدة يكسبها اعترافاً دولياً يعوض لها عن دورها ك"قوة متوسطة" في الاتحاد الأوروبي. وبما ان 11 أيلول خلق توازناً دولياً جديداً، فكان من الضرورة، برأيه، ان تكون اسبانيا في الجانب الأقوى، أي حليفة للولايات المتحدة، مفضلاً ان يكون "الحليف المتواضع" للولايات المتحدة، على ان يبقى "الحليف المتوسط" لفرنسا وألمانيا. لم يكن ذلك يعني، برأي رئيس الوزراء الاسباني، الخروج من أوروبا. بل العكس، فقد كان يعتبر ان خياره هذا قد يدفع الرئيس بوش الى عدم اهمال أوروبا "القديمة"، كما يجعل من اسبانيا حليفاً مميزاً للولايات المتحدة، بعد بريطانيا مباشرة. وهذا ما حصل بالفعل، فأرسل أثنار 1300 جندي اسباني الى العراق، غير آبه برأي 80 في المئة من الاسبان المعارضين لهذا القرار، فكان ان أدرجت اسبانيا على لائحة "القاعدة"، ضمن دول أخرى عدة، كهدف لعمليات انتقامية. ولسوء طالعه، نفذت "القاعدة" ما وعدت به. عودة "القوة 121" في هذا الوقت، يتردد صدى انفجارات مدريد في الجبال الأفغانية المغطاة بالثلوج، حيث بدأت قوات التحالف سباقاً مع الوقت، في محاولة للقبض على أسامة بن لادن، زعيم "القاعدة"، ومساعده الأول أيمن الظواهري. وكانت معلومات شبه مؤكدة أفادت ان القوات الأميركية بدأت منذ أسابيع عمليات مكثفة، بالتعاون مع قوات باكستانية وأفغانية، على الحدود بين البلدين، لتحديد مكان بن لادن. وعلى رغم ان المسؤولين الأميركيين لم يدلوا بأي معلومات بهذا الصدد، الا ان عودة رجال كوماندوس "القوة 121" الى أفغانستان، بعد توقفهم لفترة في العراق، تؤكد هذه الأنباء. وتبين ان أكثرية العمليات تجرى حالياً في منطقة حدودية بين أفغانستان وإقليم خيبر الباكستاني، حيث يعتبر ان بن لادن شوهد مرات عدة، لكن وعورة المنطقة تعرقل عمليات البحث، التي يحاول الأميركيون، بصعوبة، اشراك رجال القبائل فيها، وهم يعرفون جيداً ان الرجل وتنظيمه مدعومان من سكان الحدود، خصوصاً أن بن لادن يعتبر "بطلاً وطنياً" بسبب قتاله السابق ضد الاتحاد السوفياتي في أفغانستان والدليل الى ذلك ان جائزة ال25 مليون دولار الموعودة لمن يساعد في القبض عليه لم تؤتِ ثمارها حتى الآن. تكتيك جديد ولا شك في أن التحول الكبير الذي حصل بعد عمليات مدريد، سيدفع الولاياتالمتحدة الى اعادة النظر في استراتيجيتها، ربما بتعاون أوثق مع الاتحاد الأوروبي، الذي أصبح معنياً بشكل كبير بتهديدات "القاعدة"، خصوصاً أن هذه التهديدات لم تعد مجرد كلام. لذلك، أصبح من الضروري، برأي الأميركيين والأوروبيين، وضع حد لهذه التهديدات، ما يتطلب استراتيجية جديدة وتنسيقاً أوثق بين الولاياتالمتحدة وأوروبا والدول العربية ودول أخرى على رأسها باكستانوأفغانستان. لكن، ومن ناحية أخرى، تعتقد وكالات الاستخبارات الغربية ان "القاعدة" غيّرت كثيراً في تكتيكها على الأرض. فهي أعطت ما يشبه الاستقلالية لجماعاتها في العالم، التي أعادت تنظيم نفسها بعد مقتل الكثير من قيادييها أو القبض عليهم. ما أسفر عن تشكيل خلايا صغيرة تتحاشى الاتصال في ما بينها الا عند الضرورة القصوى، مع تعليمات صارمة تتلقاها في شكل سري جداً من القيادة الأساسية، وهذا ما يُصعّب عملية كشفها قبل تنفيذ عملياتها. لقد شكلت عمليات 11 أيلول نقطة تحول أساسية في السياسة الأميركية، وجعلت القرار العالمي لها وحدها، خصوصاً في حربها ضد الارهاب، التي كانت، عشوائية تفتقر الى معلومات ووقائع أساسية، كما تفتقر الى استراتيجية عالمية بقيت منقوصة بسبب اهمالها الدور الأوروبي. ونتجت من ذلك حربان أقل ما يمكن ان يقال فيهما انهما أدتا الى عكس النتيجة المتوخاة، والتي على أساسها جُنّدت دول عدة في العالم، فلا الارهاب العالمي توقف بعد الحرب الأفغانية وسقوط "طالبان"، ولا عمليات المقاومة العراقية توقفت مع القبض على صدام حسين، وحتى الآن، لم تظهر أي بوادر تنبئ ب"ديموقراطية" موعودة في أي من الدول التي سمتها الولاياتالمتحدة في ذلك الوقت، والتي خاضت حروبها على أساسها. فما الذي تغير أو سيتغير بعد 11 آذار مارس 2004؟ مما لا شك فيه ان المتطرفين، الذين أصبح اليوم مؤكداً انهم ينتمون الى تنظيم "القاعدة"، بدأوا مع عمليات مدريد ما يمكن تسميته ب"الارهاب الشامل"، أي القيام بعمليات ارهابية يسقط فيها أكبر عدد من الضحايا، لإشاعة الرعب في المجتمعات المستهدفة. وتبين ان رد الفعل، على المدى القريب، هو استنكار صادق في دول العالم كلها، خصوصاً في أوروبا، حيث بدا التضامن واضحاً تجاه المأساة الاسبانية من خلال تهافت المسؤولين الأوروبيين الى مدريد لإظهار مدى التعاطف مع الشعب الاسباني. ومن ناحية أخرى، تشديد في المراقبة الأمنية، وتعاون أوثق بين الإدارات الأوروبية والشرطة والقضاء. أما على المدى البعيد فمن المؤكد ان على الأوروبيين القيام بإعادة نظر شاملة في تعاملهم مع الارهاب، من دون ان يعني ذلك نسخ التجربة الأميركية كلياً. من المعروف ان دولاً أوروبية كثيرة مرت بتجارب ارهابية في السبعينات من القرن الماضي، لكنها كانت تجارب داخلية. وكان أشهرها جماعات "الألوية الحمر" في إيطاليا، ومثيلتها الألمانية الشهيرة باسم جماعة "بادر ماينهوف"، وغيرها، وهي في أكثرها جماعات عقائدية يسارية. وكذلك إيرلندا مع "الجيش الجمهوري الايرلندي" المناوئ للوجود البريطاني، وانتهاء بمنظمة "إيتا" الاسبانية الباسكية الانفصالية. لكن التهديد الارهابي الحالي يختلف تماماً عن التهديدات السابقة، أولاً بالنسبة الى نوعية العمليات، وثانياً بالنسبة الى عدد الأفراد الانتحاريين المتطوعين للقيام بها، وثالثاً لأنها حرب معلنة ضد الغرب ككل المتهم ب"صليبية" متجددة، وحتى ضد عدد من الدول العربية، ورابعاً نظراً الى الاختلاف النوعي سواء في العمليات أم في العقيدة، وهو ارهاب لا يمكن وقفه من خلال الاتفاقات السلمية كما حصل مع "الجيش الجمهوري الايرلندي"، ولا بإعلان هدنة موقتة كما حصل مع منظمة "إيتا"، ولا بالمداهمات البوليسية المنظمة كما حصل مع "الألوية الحمر" ذات الوجود المحصور جغرافياً في بقعة معينة. عنف توتاليتاري ان أوروبا تكتشف على حسابها، أنها ليست محصنة ضد الارهاب الموسع. وقد تُسَلّم أيضاً بأنها اليوم في مواجهة شاملة معلنة مع أصولية توتاليتارية عنيفة، تتطلب تعاوناً كلياً في ما بينها، لكن من دون الوقوع في الأخطاء الأميركية الكثيرة، التي هي، الى حد ما، السبب الأساس في ما يحصل اليوم، وما حدث في مدريد قد يحدث غداً في أي مدينة أوروبية، ما يضع أوروبا على المحك ويدفعها الى انتهاج سياسات جديدة. فرئيس الوزراء الاسباني الجديد، الرابح الأول مع حزبه الاشتراكي، يصل اليوم الى الحكم بزخم زوّده به غضب الشارع الاسباني، ومن المؤكد انه سيسحب الجنود الاسبان من العراق، كما انه سيحاول جهده، على عكس سلفه، التوصل الى اقرار دستور للاتحاد الأوروبي كانت اسبانيا من أعنف المعرقلين له. وقد يدفع ذلك بولندا الى اعادة التفكير بموقفها من الدستور عينه، وكذلك عدد من دول أوروبا الشرقية الأخرى. وهذا ما قد يحصل أيضاً في إيطاليا المهددة بالمقدار نفسه، خصوصاً أن مشروع الدستور الأوروبي يلحظ في أحد بنوده تضامناً أوروبياً كلياً مع أي دولة من الاتحاد مهددة بعمليات ارهابية. ويمكن الجزم بأن أوروبا كلها شعرت بأن الضربة الاسبانية طالتها أيضاً. والأوروبيون يدركون جيداً ان الناخب لا يسامح. من هذا المنظار، يمكن القول إن "القاعدة" وحّدت أوروبا وأصبحت، ناخباً مهماً فيها. لكن السياسة الأوروبية المستقبلية ستجد نفسها أمام خيارين صعبين: اما التشدد الكلي ضد الارهاب لكن بطرق مختلفة عن الطرق الأميركية تستدعي تعاوناً كلياً ومن دون اي تعال مع دول المنطقة، حتى ولو اضطرت الى تعاون ما مع الولاياتالمتحدة، وإما التميز كلياً عن الأخيرة واختيار طريق التفاهم الذي عجزت عنه أميركا، مع ما يتطلبه ذلك من وقت وديبلوماسية وتنازلات. وفي الحالين كلتيهما، يمكن التأكيد ان واشنطن فقدت في أوروبا حليفاً غير مشروط، وقد تفقد غداً حلفاء آخرين خارج أوروبا. أما الرابح الوحيد في هذه الحال فهو أوروبا التي وحّدتها المصيبة. وقد تنتقل عدوى الانتخابات الاسبانية وقرارات صناديق الاقتراع الى دول أوروبية أخرى، بل ستصل هذه العدوى الى الضفة المقابلة من الأطلسي، فيخسر بوش الانتخابات الرئاسية التي سيخيّم عليها بالتأكيد شبح بن لادن، حتى ولو تم القاء القبض عليه قبل حصولها. وتجربة القاء القبض على صدام حسين ما زالت ماثلة أمام أعين الجميع!