علاقة حميمة تجمع بين المرأة وعملية تحضير الطعام، لأن مسألة الطبخ امر نسائي اتفق عليه الجميع ومنذ القدم. من هنا أتت الفكرة العامة والشائعة في عالم الطبخ، وهي ان المرأة تطبخ جيداً وتقدم طعاماً طيباً. لكن كل ما تحضره من اطباق لذيذة محصور في المطبخ التقليدي الذي يغرق في روتين غير قابل للتجدد والتنوع ويفتقر الى حاسة الابتكار. هذا الحكم يتضمن بعض الصدق اذا عدنا الى اواسط القرن الماضي، حيث كثرت المطاعم التي تديرها نساء يقدمن الاطباق التقليدية القديمة. لكن الوضع الحالي يثبت العكس ويكسر القاعدة الشائعة بعدما نالت نساء امتهن فن الطبخ جوائز مرموقة لجودة وطيبة واناقة ما اعددنه من اطباق اليوم. ومع قلة وجود نساء من كبار الطهاة، نجد المرأة اكثر فأكثر في مطابخ كبار مشاهير فن الطبخ. اما الاصناف التي تعدها "سيدات اللقمة الطيبة" فتتميز بالنكهة اللذيذة وتجمع بين الطعام الصحي وفن التقديم، وهي مرغوبة من المتذوقين. ومع ذلك نادراً ما يعترف كبار الطهاة بالموهبة التي تتمتع بها المرأة المعاصرة التي دخلت حديثاً عالم فن الطبخ. لقد استحقت اولئك السيدات مراكزهن: طاهية اولى او رئيسة طهاة، او صاحبة مطعم شهير، وذلك في مهنة تقل فيها المساواة بين تقدير عمل الرجل والمرأة، كما يقل فيها قبول امرأة على رأس طاقم من الرجال على رغم شهرتها في فن الطبخ، ويستحيل عليها غالباً ايجاد طاه ثان يقبل العمل تحت امرة امرأة. من المعروف ان وراء كل كبير في عالم فن الطبخ تختبئ امرأة قد تكون الام او الجدة واحياناً الاثنتين معاً، ومن دون هذا الوجود المستتر لاداة ما، من الصعب جداً وصول كبار الطهاة الى الابداع والشهرة في عالم فن الطبخ. فجميع المبدعين في هذه المهنة يعترفون بأهمية المرأة في مسيرتهم المهنية، فهي لم تنمِّ فقط حاسة التذوق والذوق الرفيع بل كشفت لهم ايضاً اسرارها الصغيرة واضافاتها التي تجعل من الطبق عملاً فنياً فريداً. وعلى رغم الاعتراف بفضل المرأة هذا، لا يستسيغ اساتذة فن الطبخ، وهم كبار الطهاة ذاتهم، وجود الفتيات في صفوف التحضير واعداد الطعام الفاخر. فقبل حوالي عشر سنوات كان وجود الفتيات في هذه الصفوف نادراً، بينما يشكل الآن الحضور النسائي فيها نسبة تزيد عن الربع. واخذ المدرسون من الطهاة يتقبلون فكرة وجود العنصر النسائي جنباً الى جنب مع زملائهن من الشباب، خصوصاً بعدما اثبتت الفتيات قدرتهن على تحمل ساعات العمل الطويلة والمتعبة وعلى التعلّم السريع ووضع نكهة خاصة ومميزة في الاطباق اضافة الى صفة التنظيم والاقتصاد في المواد ثم هذا العشق الذي يأتي غالباً بشكل عفوي وطبيعي في كل ما تقوم به المرأة التي تحب فعلاً فن الطبخ. واذا كان هذا الفن لا يعرف عدداً كبيراً من النساء الشهيرات، فالحقيقة ان غالبية هذه النساء لا تهتم كثيراً بالشهرة الاعلامية وتكتفي برأي الزبائن وتذوقهم طعامها، وهي بذلك تفتقر الى الطموح وتترك عالم الشهرة والجوائز للزملاء من الرجال. المرأة تطبخ كل يوم، ربة عائلة، موظفة وقتها مليء بالعمل داخل المنزل وخارجه او امرأة تحمل لقب طاه اول، فمهما كانت صفة المرأة ومركزها فانها تكرّس وقتاً لا بأس به لتحضير الطعام، لان علاقة النساء بعملية الطبخ علاقة يومية وعفوية وطبيعية. فمهمة القيام بتغذية العائلة كانت ولا تزال امراً تقليدياً يخص المرأة، ونادرون هم الرجال الذين يوافقون على كسر هذا التقليد ويأخذون على عاتقهم امور الطبخ اليومية. ان تحضير الطعام يعني اعداد اطباق من الاطعمة ثلاث مرات يومياً ومهما كانت الظروف فهناك ثلاث ساعات على الاقل يمضيها من يحضر الطعام في المطبخ. ولا ننسى مسألة التغيير والتنويع وتفادي ما لا يحبه هذا وذاك من افراد العائلة، اضافة الى اختيار الطعام المغذي والمتوازن وايضاً معرفة كيفية الإنفاق من دون كسر الموازنة الخاصة بالطعام. اما الخصوصية التي تميز هذا التقليد القديم فهي ان المرأة التي تطبخ لم تبخل بمعرفتها واسرار الطعم المميز لأطباقها. فهي قدمت تجربتها شفوياً وتناقلتها الاجيال، ونادراً ما نجد وصفات الطعام مكتوبة، واذا هي وجدت فتكون مدونة على دفتر صغير من دون شروحات. وتنتقل هذه الوصفات عادة من الأم الى ابنتها او من حفيدتها. لكن هناك نقطة ضعف تؤثر على استمرارية هذا التقليد، وهي تطور الحياة المهنية للمرأة التي ترغمها على تكريس وقت اقل لأمور العائلة. اضافة الى تطور الهيكلية العائلية وبالمعنى الواسع للكلمة، اي من عائلة تعيش فيها اجيال عدة، الى عائلة مؤلفة من الأب والأم والاطفال. فهنا تفقد عملية انتقال اسرار مطبخ الجدة والام قوتها. ثم ان هناك المرأة التي ولدت في الخمسينات وأدخلت الطعام الجاهز والمثلج الى مائدة العائلة. ثم اعتمد الجيل الذي تلاه الامر نفسه، وبالتالي فقدت عائلات كثيرة اهمية تحضير طعامها اليومي. اليوم، ومع العودة الى انتاج المواد الاستهلاكية الطبيعية، من خضراوات ولحوم وغيرها، عاد الاهتمام بالمطبخ العائلي وبتحضير الاطباق الصحية والمغذية، خصوصاً بعدما كثرت الكتب المختصة بوصفات الطبخ لكل الاذواق من اطباق تقليدية قديمة واخرى سريعة التحضير وتلك التي تختصر الوحدات الحرارية وغيرها وهذه كانت بشكل عام موقعة بأقلام نسائية. وساهم بالعودة الى اهمية تحضير الطعام، التطور الكبير الخاص بعملية حفظ المواد الغذائية، خصوصاً عملية تجليد او تثليج اللحوم والبقول الامر الذي يوفر وقتاً كبيراً على المرأة العاملة. وهكذا عرفت سوق الاستهلاك كيف تجذب المرأة الى شراء المواد الاستهلاكية أخذاً في الاعتبار عامل الوقت الذي تفتقده. وساعد هذا التطور المرأة على تحضير الطعام بسرعة والاحتفاظ بصفة الأم التي تعمل على تغذية افراد العائلة من دون الإخلال بوضعها المهني. ان نجاح الرجل في فن الطبخ يدفع الى التساؤل اذا كان هناك مطبخ خاص بالرجل وبالمرأة. في الواقع لا شيء يفصل مطبخ المرأة عن مطبخ الرجل، لكن الصحيح ايضاً ان الرجل في مطبخه هو اشبه بمهندس ينسق بين خطوط رسوماته ليصل الى تحقيق "بناء" جميل ومريح. الرجل الطاهي الاول يفكر ويفكر ثم ينسق بين تمازج عناصر الطبق وتوابله ولزوجة الصلصة او شفافيتها التي تلائمه، اما المرأة كطاه اول فهي غالباً ما تقوم بتجارب بسيطة لتجانس بين الخضراوات واللحوم والتوابل، وهي نادراً ما تحتاج للتذوق، فحاسة الذوق مزروعة في تفكيرها وهي تعتمد على عامل الحدس والبديهة، وقد يكون السبب هذا الموروث الاجتماعي التقليدي الذي خصّ المرأة بحدس شبيه بوراثة عضوية لا ينكرها أحد. ان مطبخ المرأة يرتبط بنوع من الحساسية النابعة من الذات، يكفي ان تتجرأ وتجرّب كي تصل الى الابداع