عقد وزراء خارجية الدول المجاورة للعراق اجتماعهم الخاص في الكويت بحضور ممثل الأمين العام للأمم المتحدة الأخضر الابراهيمي "لبحث الأوضاع المستجدة في العراق ومدى تأثيرها في الأوضاع الاقليمية والدولية". وأصدر المجتمعون بياناً تناول أوضاع العراق وانعكاساتها من مختلف جوانبها. وبما ان لكل دولة من الدول المشاركة حساباتها ومصالحها وهواجسها داخل العراق وحوله، وهي مصالح وهواجس تتقاطع ولا تتطابق، كان لا بد من قراءة جيو - استراتيجية لوضعية العراق الحالية على ضوء تاريخ العراق المعاصر وما يبرزه هذا البيان من تحولات جذرية لبعض هذه الدول في مقاربتها لوضع العراق تحت الاحتلال ولأسلوب معاطاتها، قسراً أو قناعة، مع هذا الوضع. أولاً: العراق في محيطه 1- يشكّل العراق الدولة والكيان بمعطياته الجغرافية والبشرية والسياسية نموذجاً للدول ذات التأثير والتأثر بمحيطها الجغرافي. فمنذ بداية الثلاثينات والعراق الملكي ثم الجمهوري يشهد صراعات داخلية وصراعات مع الخارج. فشعب العراق بتركيبته الاثنية والدينية هو امتداداً ولديه امتدادات داخل دول الجوار بأبعادها العربية والسنّية والشيعية والكردية. ومن ثم ازدوجت بامتدادات اقتصادية نفطية عبر أنابيب النفط الموزعة على دول الجوار في كل اتجاه. وهكذا تختلط عناصر التفجّر الملتهبة حيث تتقاطع هواجس الأقليات وأنابيب النفط لتجعل من العراق ساحة مشتعلة بالعنف والتطرف والبلقنة! فهو مركز الاضطراب... ومركز الاستقرار في آن! 2- ان العراق بحجمه الجغرافي والبشري وبتاريخه كمهد للقومية العربية في وجه القوميتين الفارسية والتركمانية كان له دائماً وزن غير قليل داخل المعادلة العربية ومن ثم مع دول الجوار الجغرافي. ولذا وجدت كل التيارات العربية امتدادات لها داخل بلاد الرافدين: السياسية والحزبية والايديولوجية وكان من أبرزها حزب البعث العربي، وأكثر من أدرك أهمية العراق ودوره في الجغرافيا السياسية لدول المشرق العربي كانت بريطانيا الدولة المنتدبة على العراق. لهذا سعت في مرحلة أولى الى "هندسة" جغرافيته بما يناسب استراتيجيتها الاقليمية... ومن ثم سعت الى جعله محور أحلافها الاقليمية متّكلة على أحد أبرز "أصدقائها" نوري السعيد! حلف بغداد في الخمسينات. ومن ثم حلف "السنتو" بريطانياوتركياوالعراق وباكستان. ومع قيام النظام الجمهوري 1958 ومن ثم تسلّم البعث السلطة في بغداد لم يتغير كبير شيء: العراق يتدخل في جواره ودول الجوار تتدخل في العراق: - الصراع مع تركيا عبر الذراع الكردية وعلى مياه دجلة والفرات. - الصراع مع سورية على الأولوية في قيادة "البعث" والأولوية في مركزية دول المشرق العربي وانعكاس ذلك أحياناً على المصالح المائية في الفرات التهديد بمهاجمة سورية عام 1975 على خلفية مياه الفرات. - الصراع مع إيران على خلفية "طائفية" بخصوص دور الشيعة العراقيين والنزاع على شط العرب والأكراد زمن الشاه ومن ثم حرب الثمانينات حرب الخليج الأولى مع نظام الإمام الخميني. - الصراع مع الكويت على الحدود والنفط والواجهة البحرية والديون ومن ثم اجتياح الكويت عام 1990. - صراع مع المملكة العربية السعودية داخل "أوبك" وحول أمن الخليج ومرتكزات القيادة العربية داخل النظام العربي يجعل بغداد قطباً أساسياً وعدم قصره على القاهرة والرياض ودمشق! وهذا ما ينبغي ان تدركه مصر أيضاً. اذ يضع العراق نفسه في موقع منافسة مصر على زعامة العالم العربي. وفي جميع هذه الصراعات كان هناك سلاح أساسي جاهز يشهره العراق على غيره، وغيره يشهره في وجهه هو الجماعة الكردية في منطقة كردستان على مفترق الدول والقوميات الثلاث: العربية والفارسية والتركمانية، بما يجعلها تحيا في قدرية التاريخ والصراع الدائم من أجل وجودها وكيانها وهويتها. وهي في هذا تواجه أصعب مهمة في التاريخ لأن الأقليات عادة ما تواجه نزعة قومية واحدة في دولة - الأمة القومية. ولكن الأكراد بفعل انتشارهم الجغرافي موضوعون أمام مأزق اللاخيار في مواجهة ثلاث قوميات ودول قومية دفعة واحدة! من هنا تمسك الأكراد برهانهم الحالي خصوصاً على أميركا والفيديرالية باعتباره رهاناً تاريخياً قد لا يتكرر أبداً. 3- في جميع هذه الحالات، فإن علاقة العراق بمحيطه ترتبط دوماً بقدراته السياسية/ العسكرية/ الاقتصادية، أي بميزان القوى في المنطقة والمحيط. وأثبتت التجارب التاريخية ان العراق في حالي الضعف والقوة كان عامل عدم استقرار اقليمي، ونادراً ما كان عامل استقرار. فلطالما شعر دائماً أنه محاصر... وأن القوى الدولية تسعى الى تهميشه إما مباشرة وإما مستعينة بالقوى الاقليمية. وأكثر ما يكون هذا التهميش بروزاً هو لدى مقاربة المشكلة الفلسطينية حيث كان للعراق دائماً موقف جذري من الدولة العبرية: سواء بالكلام أم بالفعل، ما يؤثر سلباً في سياسة الدول الكبرى في المنطقة. ثانياً: بيان الكويت: التحولات في ضوء هذه النظرة السريعة على وضعية العراق في محيطه، وعلى ما آلت اليه أوضاعه الحالية بعد الاحتلال الأميركي لبلاد الرافدين، والاعلان عن قيام "الشرق الأوسط الكبير" وانعكاس كل ذلك على مجمل دول المنطقة والأوضاع الدولية. وفي ظل استمرار أعمال العنف داخل العراق في شكل تصاعدي، يمكن رصد مجموعة تحولات في مواقف الدول المشاركة في مؤتمر الكويت كما عكسها البيان الختامي للمؤتمر. من هذه التحولات: 1- الاعتراف بسلطة مجلس الحكم الانتقالي ودعم جهوده وتجسيده في مشاركة وزير خارجية العراق هوشيار زيباري الذي لم يدعَ سابقاً للمشاركة في اجتماع دمشق، ما أثار لغطاً في حينه. 2- مشاركة مندوب الأمين العام للأمم المتحدة في الاجتماع وهي مشاركة تؤكد أمرين: الأول: القناعة لدى دول الجوار ولدى أميركا بالذات ودول العالم، أنه لا بديل عن دور الأممالمتحدة في معالجة القضايا الدولية حيثما كانت ومن أي نوع كانت. ويبقى الخلاف حول حدود هذا الدور وأبعاده. الثاني: ان الابراهيمي خبير في مشكلات المجتمعات غير المتجانسة. من لبنان الى أفغانستان الى العراق. ولا شك في ان مداخلته في الاجتماع كانت من العمق والدقة بحيث عكست المواقف الحقيقية للأطياف العراقية وليس الموافقة الشفهية المعلنة التي لا تعبّر عن حقيقة الوضع ومخاطره. ومن هنا تحذيره الجميع من امكان "لبننة" العراق، أي تحويل الصراعات فيه الى صراعات دولية على خلفية طائفية، ما يؤدي عملياً الى حرب أهلية مدمرة. وهو بذلك يضع الجميع أمام مسؤولياتهم في الداخل والخارج على السواء. 3- ادانة الارهاب بأشكاله المختلفة، لا سيما التفجيرات والأعمال الارهابية التي تستهدف المدنيين والمؤسسات الانسانية والدينية والمنظمات الدولية والبعثات الديبلوماسية، وتحميل الفاعلين مسؤولية جرائمهم، والعمل "على استئصال كل جذور الارهاب على الأراضي العراقية"، والاعتراف بأنها "تشكل خطراً على دول الجوار". 4- ادانة قتل الأسرى العراقيين على يد النظام السابق وضرورة محاكمة المسؤولين عن هذه الجرائم. 5- تأييد قرار الشعب العراقي بضرورة محاكمة النظام السابق وعلى رأسه الرئيس صدام حسين. 6- توجيه طلب الى الأمين العام للأمم المتحدة بالدعوة الى اجتماع المجموعة الاستشارية المؤلفة من الأعضاء الخمسة الدائمي العضوية في مجلس الأمن ودول الجوار العراقي "في الوقت المناسب وفي مستقبل قريب" لدرس السبل الآيلة الى تمكين العراق من ممارسة دوره الايجابي كعضو في المجتمع الدولي وتنفيذ التزاماته الدولية. وفي هذا التعبير اشارة الى أمرين أساسيين: أسلحة الدمار الشامل والموقف من الكويت. ثالثاً: الهموم والاهتمامات صحيح ان دول الجوار العراقي معنية ومهتمة بأوضاع بلاد الرافدين وهي تبذل نشاطات متعددة ومتنوعة حفاظاً على مصالح العراق وعلى اعادته الى وضعه الطبيعي دولة مسالمة ومزدهرة في المشرق العربي. ولكن الصحيح أيضاً هو ان هذه الدول مهتمة بالقدر نفسه ربما بالآثار السلبية التي يمكن ان تنعكس عليها من جراء الأزمة العراقية. ولذا فكل دولة من دول الجوار معنية بمصالحها وبالحفاظ على هذه المصالح من دون أن تتأثر سلباً بهذه الأزمة. وعرض مبسط لهموم هذه الدول واهتماماتها، يوضح الآتي: وحدة العراق: وهي موضوع يجرى الحديث عنه خارج الواقع الموضوعي للتشكل الاجتماعي العراقي. ان فكرة الوحدة هي أشبه ب"التابو" في الذهن العربي لأنها مرتبطة تاريخياً بخلفية ايديولوجية اسلامية. فمفهوم الوحدة هو الزاوية الأساسية في البناء الفكري الاسلامي. وعادة ما يصطدم هذا المفهوم بالتركيبة الاجتماعية للدول في تشكلاتها الدينية والمذهبية والإثنية. فيصبح مفهوم الوحدة أقرب الى الوحدنة منه الى الوحدة لأنه يقوم عندها على عملية فرض قسرية لجهة على جهات أخرى داخل المجتمع. وبدلاً من ان تساعد التسوية مبدأ المركزية تؤدي في تعسفها الى العكس تماماً الى مطلب اللامركزية في غياب ديموقراطية صحيحة. وهذا ما يبرر الكلام عادة على اللامركزية والفيديرالية... وسواها. إن سقوط مبدأ المواطنية والمساواة داخل المجتمع يؤدي حكماً الى التفسخ الاجتماعي وبالتالي الدولاتي. لذا فإن وحدة العراق ليست شعاراً يطلق بل هي ممارسة ديموقراطية صحيحة للسلطة! احترام سيادة العراق واستقلاله: وهو مبدأ سليم ومطلوب، ولكنه يذهب في الاتجاهين. على العراق من جانبه ان يحترم سيادة دول الجوار واستقلالها، وهذا ما لم يفعله دائماً. وعلى دول الجوار ودول الاستعمار ان تحترم سيادة العراق واستقلاله، وهذا ما لم تفعله دائماً. فلطالما تدخَّل العراق في شؤون جواره سياسياً وأمنياً وعسكرياً. ولطالما تدخلت دول الجوار في العراق سياسياً وأمنياً وعسكرياً. هذا يقود حكماً الى الحديث عن "حق الشعب العراقي في تقرير مصيره من دون تدخل خارجي". ولكن هل يستطيع عاقل ألاّ يرى مدى تدخل دول الجوار ودول الاحتلال، في العراق والضغط على شعبه وفئاته في اتجاهات مختلفة وأحياناً متباينة وفقاً لسياسات هذه الدول. ان الشعب العراقي كان مكبّلاً في الماضي بسلطته الاستبدادية وهو اليوم يعاني ضغوطاً على أطيافه السياسية لتوجيه خياراته السياسية على مقاس هذه الدولة او تلك من دول الاحتلال ودول الجوار في آن. بناء علاقات ايجابية مع دول الجوار، ما يستتبع حكماً بناء دول الجوار علاقات ايجابية مع العراق. ففي الوقت الذي تطالب إيران بإقصاء "مجاهدين خلق" كفصيل مناهض لها داخل العراق، على إيران ان توقف تدخّلها في مواقف الطائفة الشيعية في العراق. وتركيا تتمسك بحقوق التركمان وتهدد في حال منح الأكراد الحق باللامركزية. مع العلم ان مواقف دول الجوار لا يمكن ان تكون بمنأى عن علاقاتها بالولايات المتحدة! تواجه بعض دول الجوار لا سيما إيران وسورية مأزقاً في التفريق بين أمرين: القدرة على مساعدة العراق من جانب ومواجهة أميركا من جانب آخر. فإلى أي مدى يعجّل خلاص العراق في جلاء قوات الاحتلال عنه؟ هذا هو السؤال! شعور دول الجوار كافة بأن المسلسل الدموي في العراق لن يبقى محصوراً هناك، بل ستطاول شظاياه جميع دول المنطقة. ولذا كان التوافق على تشكيل لجان مشتركة لمراقبة الحدود مع سورية وإيرانوتركيا خصوصاً خطوة في اتجاه تهدئة الأوضاع، لأن تسعيرها تحت ستار محاربة الاحتلال الأميركي لا بد من أن يهدد دول الجوار نظراً الى تشابك العلاقات المذهبية والإثنية بين هذه الدول. تدرك دول الجوار جيداً ان العراق هو المدخل لمشروع أميركا في المنطقة المعروف ب"الشرق الأوسط الكبير"، ولذا تحاول هذه الدول ان توفّق بين مواقفها المبدئية بأبعادها الدينية والقومية والسياسية، وبين عدم اصطدامها بالهجوم الأميركي نظراً الى ما يرتب عليها ذلك من أثمان باهظة في الأشخاص والأنظمة وأنماط الحياة. باختصار، يصعب على دول الجوار العراقي الاختباء وراء الكلمات والتعابير العامة. فبيان الكويت يشكّل تحوّلاً كبيراً باتجاه قبول الأمر الواقع الأميركي في العراق والمنطقة، ولا يمكن التغطية على هذا التوجه باستعمال التعابير العامة التي تكاد تفقد معناها في ظروف المنطقة الصعبة. ان لدى هذه الدول هواجس حقيقية وأن أهم فلسفة يمكن ان تتبناها هذه الدول في مواجهة الوضعية العراقية والاقليمية، هي الفلسفة التي لديها معادل مع الواقع. وهذا الواقع الجديد يؤكد ان العراق سيكون بكل تأكيد المدخل الى "الشرق الأوسط الجديد" مهما كانت هوية هذا الشرق الأوسط ومكوناته!