في 23 أيلول سبتمبر 2003، وقف كوفي انان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة ليحذّر: قائلاً: "ها قد وصلنا الى نقطة تحولّ ربما لا تقل حسماً عن العام 1945 نفسه، حين تم تأسيس الأممالمتحدة". آنذاك فهم الجميع ما عناه عنان بين السطور: الأممالمتحدة إما أن تتطور سريعاً، أو تموت سريعاً. ولأن أحداً في الأسرة الدولية ليس مستعداً بعد لتحمل مسؤولية دفن المنظمة الدولية الوحيدة التي تجمع دول العالم تحت سقف واحد، فقد انبرى الكل للتصفيق للأمين العام حين قرر تأسيس لجنة عليا من 16 من رؤساء الدول ووزراء الخارجية والمسؤولين السابقين في مجالات الامن والشؤون العسكرية والديبلوماسية والتنمية، لوضع برنامج شامل لهذا التطوير. اللجنة انجزت مهمتها أخيراً وخرجت بتقرير من 95 صفحة تضمن أكثر من 100 توصية حول كيفية مواجهة التهديدات في القرن الحادي والعشرين، و جعل العالم أكثر أمناً وتطوير المنظمة الدولية. البنود الرئيسة هي: تأكيد حق الدول في الدفاع عن نفسها، بما في ذلك شن الحرب الاستباقية حين يكون التهديد وشيكاً، شرط أن يتم ذلك من خلال مجلس الامن الدولي الذي يجب ان يعمل بشكل سريع واكثر حسماً من السابق. تعريف جديد للارهاب يرفض استخدام القوة على نطاق واسع ضد المدنيين، سواء من جانب الدول أو المجموعات الخاصة. اقتراحات شاملة وعملية لمنع انتشار الأسلحة النووية، وتعزيز دور الأممالمتحدة خاصة في مجالات بناء السلام. توسيع مجلس الامن الدولي ليصبح 24 عضواً بدل 15، إما من خلال اضافة ستة أعضاء جدد دائمين لا يتمتعون بحق النقض الفيتو، أو بخلق فئة جديدة من المقاعد تدوم أربع سنوات توزّع على أساس اقليمي جغرافي. لحن وطرب أي قراءة سريعة لاقتراحات اللجنة، توحي بأنها عزفت على اللحن الذي تطرب له الولاياتالمتحدة، الدولة الاعظم التي تمولّ خمس التكاليف السنوية للامم المتحدة نحو 5 بلايين دولار. فهي الاقتراحات لم ترفض مبدأ بوش حول الحرب الاستباقية، وان كانت وضعت له شروطاً محددة. وهي حققت رغبة واشنطن في وضع تعريفات للارهاب تتلاءم مع توجهاتها وأيضاً مع توجهات حليفها الرئيسي اسرائيل. ثم ان فكرة توسيع مجلس الامن هي أصلاً فكرة أميركية بدأ التداول بها مباشرة بعيد نهاية الحرب الباردة العام 1989. لكن، وعلى رغم ذلك، عمدت واشنطن الى سكب ماء مثلج على هذه الاقتراحات، وانبرى منظرّوها للتصدي لها. فكتب مايكل غينون، بروفسور القانون الدولي في جامعة تافتس، بأن توسيع مجلس الامن لن يحقق الاستقرار العالمي المنشود. كما أن الحد من سلطة الدول اقرأ هنا الدولة الاميركية لشن الحرب الاستباقية، سيعني أن العدوان سيقع ثم يأتي الرد. بيد ان مثل هذا الرفض كان لطيفاً إذا ما قورن برد فعل المحافظين والمحافظين الجدد الاميركيين، الذين لم يكتفوا بالسخرية من التقرير، بل استبقوه بشن حملة عنيفة على كوفي انان متهمين إياه بالفساد ومطالبين باستقالته، بسبب ما يحكى الان عن سرقة أموال برنامج الغذاء في مقابل النفط العراقي. بالطبع، ليس رأس انان وحده المطلوب. رأس الاممالمتحدة نفسها هو الهدف. وهذا توّجه لم ين يتفاقم في الداخل الاميركي منذ أن تحولّت الولاياتالمتحدة الى الدولة العظمى الوحيدة في العالم، وباتت تشعر ب"الضيق" من احتمال وجود منظمة او دول تجرؤ على مناقشة قراراتها المنفردة. لا بل أكثر: انبرى العديد من الجمهوريين الاميركيين، ومعهم مراكز الابحاث المحافظة ولوبيات الضغط اليهودية، الى التشديد على ان منظمة الاممالمتحدة فشلت وبات يتعين دفنها وايجاد بدائل أخرى عنها. وهذا موقف غريب إذا ما تذكّرنا أمرين اثنين: الأول، أن مثل هذه المواقف لم تبرز حتى في ذروة الحرب الباردة حين كان الفيتو السوفياتي يشل كل أعمال مجلس الامن، وحين كانت الاممالمتحدة مجرد هيكل عظمي لا لحم فيه ولا جلد. وعلى رغم ذلك، كانت واشنطن حريصة على بقاء هذه المنظمة الدولية واستمرارها في الحياة وان بطرق اصطناعية. والثاني، أن الاممالمتحدة نفسها ولدت في حضن قابلة قانونية وحيدة اسمها الولاياتالمتحدة في سان فرنسيسكو في 26 حزيران يونيو 1945، لهدف انساني نبيل هو "حماية الاجيال المقبلة من أهوال الحرب التي جلبت مرتين في قرن واحد مآسي لا تحصى"، ولبناء نظام عالمي جديد يقوده مبدأ "الدفاع المسلح" عن النفس لا الهجمات الوقائية على الأخرين. أكثر الأميركيين بلاغة في التعبير عن الروح الجماعية الجديدة المفترضة للبشرية في اطار الأممالمتحدة، كان الرئيس الاميركي هاري ترومان، الذي اعلن امام 3500 مندوب دولة حضروا ولادة المنظمة الدولية: "يجب علينا جميعاً الاعتراف بانه مهما كانت قوتنا، فعلينا أن ننفي عن أنفسنا حق ممارسة ما نحب أن نفعل بمفردنا. هذا هو الثمن الذي يجب ان تدفعه كل أمة من اجل السلام العالمي". وعن الاممالمتحدة قال: "لا أحد يزعم ان هذه المنظمة أداة كاملة، فهي لم تولد في قالب جامد. وعلى أي حال، ظروف العالم المتغيّرة ستدفعها الى التطور من اجل تحقيق السلام". كلمات ترومان هذه العام 1945 تبدو في العام 2004 وكأنها أطلقت من كوكب آخر. فبدلاً من التواضع ورفض ممارسة سياسة القوة بشكل منفرد، ثمة في اميركا الآن صيحات حرب تدعو الى هذه الممارسة بالذات. وبدلاً من الاعتراف بدور الاممالمتحدة والعمل على تطويرها "تبعاً لظروف العالم المتغيرة"، ثمة مطالبات أميركية بقتلها وطردها من الأراضي الاميركية. هذه المواقف كانت سابقة لحرب العراق، لكنها شهدت "انفجاراً عظيما" بعدها حين تكشف أن هذه الحرب كانت مجرد جزء من دراما أبرزت مدى تعقد العلاقات بين الولاياتالمتحدة ووليدتها الأممالمتحدة، في وقت يبدو فيه توزيع القوة العالمية منحازاً بشكل استثنائي للدولة العظمى الوحيدة. وهذا، على أي حال، ما عبّر عنه شاشي ثارور نائب انان، حين قال: "ان ممارسة القوة الاميركية ربما تكون هذه الايام هي القضية المركزية في السياسات العالمية". وبالمثل، دلت حملة الانتخابات الأميركية الاخيرة على ان الزاوية التي تختارها واشنطن للاطلالة على الاممالمتحدة في اطار سياساتها الخارجية، هي قضية مركزية أيضا في السياسات المحلية الأميركية. في العام 1990، كسرت الاممالمتحدة 45 عاما من شلل الحرب الباردة، ورّدت على ابتلاع العراق للكويت. وقد اختار الرئيس بوش الاب آنذاك ان ينقل المسألة الى مجلس الأمن حتى قبل أن يعرضها على مجلس الشيوخ لسبب واضح: إذ حالما استنتج أن تحرير الكويت سيتطلب استخدام القوة، عرف أنه سيكون من الاسهل عليه نيل موافقة الاتحاد السوفياتي والصين وفرنسا وبريطانيا والاعضاء الدائمين الاخرين في مجلس الامن، أكثر من الحصول على موافقة الديموقراطيين في الكونغرس. وهكذا، فقط بعدما وضع يده على موافقة مجلس الامن، كان في مقدروه الحصول على غالبية ضئيلة في مجلس الشيوخ. بعد ذلك، كان من الطبيعي أن تترك إدارة بوش الاب السلطة وهي تعلّق كبار الامال على الاممالمتحدة، معلنة أن المنظمة الدولية "كسبت حياة جديدة، وبرزت كأداة مركزية للحفاظ على السلام العالمي". بيل كلينتون، الذي خلف بوش الاب، واصل انتهاج هذا السلوك التفاؤلي، وهو اعلن أنه مصمم على "التركيز كاللايزر" على الاقتصاد المحلي، فيما هو سيعتمد في السياسة الخارجية على الاممالمتحدة. كما أن سفيرته لدى الاممالمتحدة مادلين أولبرايت تصّورت بروز "تعددية جازمة" تكون حجر الزاوية لكل من السياسات الاميركية والسلام العالمي. وقد رأى سلف انان، بطرس بطرس غالي، في هذا الموقف الاميركي لما بعد الحرب الباردة، فرصة استثنائية لتوسيع الاممالمتحدة وتعزيز عملها. لكن خلال سنتين تبددت آمال كلينتون وغالي. ففي الصومال أراد كلينتون أن يسحب القوات الاميركية التي أرسلها بوش الاب بناء على الحاح غالي لاغراض انسانية. وقد أدى هذا الانسحاب لاحقا، وما سبقه من خسائر أميركية في الارواح، الى وضع نهاية لمثل هذه العمليات. بيد ان الصومال كان أقل الكوارث التي تعرضت لها الولاياتالمتحدةوالاممالمتحدة والتي أدت الى تأزم العلاقات بينهما. إذ سريعا ما برزت كارثة الابادة الجماعية في رواندا، والتي رفضت كل من الاممالمتحدةوالولاياتالمتحدة على حد سواء التدخل لوقفها على رغم قدرتهما على ذلك. ثم برزت مأساة ثانية، حين غضّت الاممالمتحدة الطرف عن مذابح الصرب في البوسنة والهرسك. هذه الأزمات استغلها المحافظون الاسرائيلون والاميركيون للتشهير بالأممالمتحدة ودورها وللدعوة الى تفكيكها. وهكذا قام الكاتب الاسرئيلي غولد، في كتابه "برج بابل"، بوضع قصص الصومال ورواندا والبوسنة في سياق واحد، وأعادهما الى الايام الاولى لتأسيس الاممالمتحدة، قائلاً ان هذه المنظمة كان يفترض أن تنحاز الى الضحايا ضد المعتدين، لكنها رفضت من البداية القيام بهذا الدور. وهذه البداية، برأيه، "كانت في العام 1948، حين هاجمت الدول العربية دولة اسرائيل التي ولدت على يد الاممالمتحدة. وبرغم أن ما أسماه غولد "العدوان" ... العربي كان واضحا، إلا ان الاممالمتحدة رفضت ادانته. لا بل هي دعت كل الاشخاص والمنظمات في فلسطين الى وقف كل العمليات العسكرية وغير العسكرية". والاختبار الثاني جاء في 1948 أيضا، حين اشتكت الهند للأمم المتحدة من هجوم اسلامي في كشمير رأس حربته القوات الباكستانية. ويشدد غولد على أن هذه السوابق من الحياد بين المهاجمين والمدافعين، سخرت من المبادئ التي قامت عليها المنظمة. وكان هذا هو دأب الاممالمتحدة، عدا مسألة احتلال الكويت العام 1990 الذي كان استثناء. وبالتالي، هذا الفشل كان جزءاً من فشل اكبر. فالاممالمتحدة عجزت عن الاثبات أنها قادرة على ان تكون قاعدة النظام العالمي الذي تصورته، او على الاقل أن تكون منارة الحق في سلوكيات الدول. ويمسك جوشوا مرافيشك، أحد أبرز محللي مركز "اميركان انتربرايز" الناطق باسم تحالف المحافظين الجدد - اسرائيل، بهذا الخيط الذي قدمه غولد ليحيك منه رداء كاملاً من العداء للمنظمة الدولية. فهو يرى أن "عداء المنطمة الدولية لاسرائيل، سار جنبا الى جنب مع سياسات سافرة أخرى، هي تواطؤها لشرعنة الارهاب، ليس فقط ضد اسرائيل بل أيضاً ضد الغرب الديموقراطي، بخاصة منه الولاياتالمتحدة". و هو يتذكر هنا قرار الجمعية العامة للامم المتحدة العام 1970 الذي أكدت فيه الاممالمتحدة "اعترافها بشرعية نضال الشعوب المستعمرة أو الشعوب تحت الهيمنة للسعي من اجل الاستقلال وتقرير المصير بكل الوسائل الضرورية التي تملك". ويعلق مرافيشك على هذا القرار بقوله: "هذا كان تحوّلا تاريخيا، وهو ظهر في وقت كان الارهاب الدولي في حال صعود، وفي حين كان العالم يشهد موجة جديدة من خطف الطائرات". وقبل غولد ومرافيشك كان دانيال باتريك موينهان الركن البارز الاخر في جوقة المحافظين الجدد يعلن بعد انتهاء مهمته كسفير اميركا لدى الاممالمتحدة بأن هذه الاخيرة "ليست اكثر من سيرك قذر"، وتساءل علناً: إلى متى يجب ان تبقى الولاياتالمتحدة جزءا منها ؟ لكن ماذا يريد اليمينيون الاميركيون والاسرائيليون بالتحديد؟ بعضهم يدعو الى رفض اصلاح الاممالمتحدة ويحث، بدلاً من ذلك، على تشكيل تجمع من الدول الديموقراطية داخل الاممالمتحدة. وهذه فكرة تحظى برضى البعض في الحكومة الاميركية والكونغرس، لأن هذا سيضعف قبضة حركة عدم الانحياز على الجمعية العامة والهيئات الدولية الاخرى. لكن البعض الآخر يعتبر ذلك حلا جزئيا، وهو يحث على خطوة اكثر راديكالية، وهي تأسيس أسرة من الديموقراطيات كبديل عن الاممالمتحدة وخارجها، بدلا من تشكيل قوة ضغط ديموقراطية داخلها. فهذا الخيار، برأيه، قد يقود الى تجنب الافخاخ والمخاطر التي تتضمنها الاممالمتحدة. هذا التيار الأخير يبني منطقه وفق الأسس الآتية: العالم يواجه الان خيارين لا ثالث لهما: إما قبول عالم تقوده الزعامة الاميركية، او عالم تعمل فيه الاممالمتحدة كحكم فوق سياسي. لكن بالنسبة الى مستقبل السلام، هذا خيار خطير. فطوال 60 عاما أثبتت الاممالمتحدة أنها فشلت فشلاً ذريعاً حين يتعلق الامر بحماية السلام والامن العالميين. هذا في حين أن العالم شهد درجة كبيرة من السلام في هذه الفترة، فقط بفضل السياسات الاميركية. فعبر حلف الاطلسي عاشت اوروبا في سلام. وبفضل تحالفات أميركا مع اليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وتايوان، كانت ثمة أيضاً درجة من السلام في آسيا. أما في الشرق الاوسط، فقد كان الأمر سيكون الأمر أسوأ لو لم تردع أميركا القوى التي كانت تخطط للهجوم على الاردن واسرائيل والسعودية والدول الصغيرة في الخليج. وفي اميركا اللاتينية، قمعت الولاياتالمتحدة القوى الراديكالية التي كانت تسعى لعرقلة الاستقرار. مرتان فقط طيلة 60 عاما اوقفت الاممالمتحدة خرقا للسلام: كوريا في 1950، والكويت في 1990-1991. وفي كلا الحالين لم يتحرك مجلس الامن لتنفيذ ميكانيزمات فرض السلام، بل هو فقط منح الولاياتالمتحدة سلطة القيام بهذه المهمة. مضاعفات هذا الامر واضحة، وهي أن عالما يترك للامم المتحدة بوصفها الحكم الاعلى، لن يكون هو عالم سلطة القانون الذي يتحدث عنه كوفي انان. انه، على العكس، سيكون عالم اللاقانون. وحينها السلام الذي عرفناه منذ 1945 سينهار. للوهلة الأولى قد يبدو هذا المنطق الداعي الى تقويض الاممالمتحدة، مجرد تعبير عن حماسة ايديولوجية لدى المحافظين الجدد والقدماء في أميركا واسرائيل. لكن الامر ليس كذلك. القصة أعمق من ذلك بكثير، وهي تطال رؤية الولاياتالمتحدة برمتها لدورها في العالم، بعدما زالت من وجهها كل القوى التي يمكن أن تعارض زعامتها أو تعرقل قراراتها. فالمحافظون يرفقون دعوتهم الى اقامة "تحالف سياسي من الدول الديموقراطية" على رفاة الاممالمتحدة، بدعوة أخرى لاعادة بناء النظام الاقتصادي والمالي العالمي على أسس جديدة أيضاً، بعدما فقد الامر الواقع الراهن فعاليته نتيجة التغيرات التي طرأت خلال العقود الثلاثة الاخيرة. فاللاعبون الدوليون ازدادوا مع انضمام اقتصادات ناشئة، والعولمة باتت تحتاج الى اجابات متعولمة على مشاكل مثل التنظيمات المالية، وإدارة الديون، وتأقلمات ميزان المدفوعات وغيرها. والحل؟ تشكيل تحالف اقتصادي عالمي جديد يكون رجع صدى لتحالف الدول الديموقراطية بزعامة الولاياتالمتحدة وقيادتها. وهذا سيسفر في النهاية عن الموت السريري للامم المتحدة. هل هذا التوجه قابل للتطبيق؟ اقتصادياً نعم. سياسياً لا. فالولاياتالمتحدة تمارس أصلاً الان عملية قيادة العالم اقتصاديا من خارج الاممالمتحدة، عبر مجموعة الدول السبع الكبار، أو مجموعة العشرين، اضافة الى مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية. وبالتالي لن يتغير الأمر الكثير إذا ما أسست واشنطن مجموعة جديدة يمكن ان تكون "مجموعة الاربعة" اميركا، منطقة اليورو، اليابان والصين لكن حين نأتي الى المجال السياسي، نكتشف فوراً أن الاميركيين يعيشون في الزهرة وباقي العالم يقطن في المريخ. ففيما تدعو اميركا الى تدمير الأممالمتحدة، ينبري العديد من الاوروبيين الى النضال من اجل انتصار ما يسمونه "مبدأ الاممالمتحدة". أبرز ممثلي هذا التيار هو الكاتب الفرنسي ايمانويل تود، الذي تنبأ في وقت مبكر بانهيار الاتحاد السوفياتي، والذي حطم كتابه الاخير "ما بعد الامبراطورية" الاميركية الأرقام القياسية في المبيعات. كتب: "حين تستكمل الديموقراطية الليبرالية انتصارتها في العالم، فإن نظاماً دولياً جديداً سينشأ يكون نموذجه السياسي منظمة الاممالمتحدة الحالية، من دون أي يكون هناك أي دور مميز للولايات المتحدة فيها. إذ سيكون على هذه الاخيرة أن تصبح مجرد واحدة من الديموقراطيات الليبرالية التي لا تقاتل بعضها البعض، فتعمد الى تقليص آلتها العسكرية، والى وقف نشاطاتها الجيو - استراتيجية". ويضيف: "الارجح أن أميركا لن تقبل بهذه الصيغة. فهي باتت معتمدة على العالم اقتصادياً، وهي تتطلب حداً ادنى من الفوضى العالمية لتبرير وجودها السياسي - العسكري في العالم القديم". هل تفكيك الاممالمتحدة جزء ضروري من هذه الفوضى الضرورية لاميركا؟ ربما. وربما هذا ما قصده أيضاً كوفي انان، حين تحدث عن وصول الاممالمتحدة الى "أخطر مفترق طرق منذ العام 1945"