تعاني أوروبا من ظاهرة اجتماعية - اقتصادية تؤثر الى حد كبير في التعداد السكاني الخاضع لنسبة الانجاب، وايضاً في موازنة العائلة. ويعود السبب الى النقص المتزايد في دور الحضانة المؤهلة لرعاية الأطفال من الأشهر الأولى وحتى سن الدراسة، أي 3 - 4 سنوات. وقد لفت هذا النقص نظر بعض التجار والمتمولين وأدى الى ازدهار تجارة دور الحضانة وحدائق الأطفال الخاصة، خصوصاً ان بعض الدول يقدم مساعدة مادية لبناء هذه الدور وتجهيزها تصل حتى 80 في المئة من الكلفة العامة. وعادة لا تتدخل بشكل مباشر بالإدارة المالية لهذه الدور ولا بالثمن الذي يتعدى احياناً الثلاثين في المئة من موازنة العائلة المتوسطة الدخل. وتضطر المرأة الى مواجهة مشكلة الحضانة هذه، أو تتخلى الأم احياناً كثيرة عن عملها لرعاية طفلها. الجيل الأوروبي الجديد يتردد كثيراً قبل انجاب الأولاد، بسبب النقص في دور الحضانة الحكومية وغلاء الدور الخاصة وندرة المربيات المؤهلات. ومشكلة دور الحضانة الخاصة هي في كونها اضافة للغلاء، تعتمد ساعات دوام لا تحل غالباً مشكلة الزوجين. من هنا تتردد المرأة العاملة في سن 25 - 26 سنة في انجاب الأطفال الا اذا وجدت حلاً ما، كمساعدة الأهل في الحضانة أو قدرة الزوج وحده على تحمل مصاريف العائلة. وترددها هذا نابع من معرفتها السابقة بالتضحية المهنية التي ستقوم بها، اي العمل بنصف دوام ونصف راتب للحفاظ على حقها في العودة الى العمل بدوام كامل في ما بعد، أو التخلي كلياً عن العمل. من هنا يأتي تأثير النقص في دور الحضانة على التعداد السكاني والدورة الاقتصادية بشكل عام. ان مسألة التوفيق بين الحياة العائلية والحياة المهنية تبقى عقدة يستعصي حلها بالنسبة الى المرأة في أوروبا الغربية. وتدل احصاءات مكتب منظمة التعاون والانماء الاقتصادي، الى ان اقبال المرأة على سوق العمل، يخضع مباشرة لمسؤولياتها العائلية. وفي البلاد التي لا تساهم فيها الدولة بشكل كاف في انشاء دور حضانة، تعتبر الأمومة عائقاً أمام النساء من عمر 24 حتى 49 سنة، لدخول سوق العمل أو للحفاظ على ديمومة العمل. وبالطبع فإن مساهمة المرأة في سوق العمل أمر مرتبط كلياً بنظرة الدول المختلفة الى دور المرأة كأم أو كعاملة، وهي نظرة تختلف بين دولة واخرى. ان حضانة الأطفال في كل من بريطانياوالمانيا وسويسرا وهولندا، تعتبر أمراً خاصاً. اما المرأة فمميزة من حيث دورها التقليدي كأم وحاضنة وربة منزل. ففي بريطانيا يعتبر تقرير بيفريدج 1942، وهو قاعدة النظام الاجتماعي لما بعد الحرب، ان المرأة تستطيع العمل قبل ولادة الأطفال. لكن مهمتها الأساسية في ما بعد تتركز على الاهتمام بأطفالها. ولم يذكر التقرير الشهير أي اشارة خاصة الى مساهمة الدولة في رعاية الأطفال من خلال انشاء دور حضانة وحدائق للأطفال أو مدارس خاصة بالطفولة الأولى. ويدخل هذا الأمر في صميم الفكرة السائدة، بأن الأم الحقة ترفض كلياً ترك طفلها في رعاية غرباء عنه. كما تعتبر نظريات تلك الفترة، ان حرمان الطفل من أمه يعرضه لأمراض نفسية، كالقلق والتوتر، ما يؤثر على نموه العقلي والجسدي. من هنا قلة الاهتمام بالدور الخاصة بحضانة الأطفال. وعلى رغم هذه الصعوبة التي تواجهها المرأة البريطانية فإن نسبة اقبالها على العمل ترتفع باستمرار، من 49 في المئة عام 1995 الى69 في المئة عام 1999، لكن هناك 41 في المئة ممن لديهن طفل واحد ويعملن بنصف دوام، و61 في المئة ممن لديهن طفلان. وبسبب حاجة بريطانيا الى يد عاملة مؤهلة، ومع متطلبات الحركات النسائية، شهدت البلاد في نهاية التسعينات تحالفاً جديداً مؤلفاً من النقابات ومتعهدي الأعمال والتجمعات النسائية، طالب الدولة بوضع خطة وطنية شاملة تعمل على تقديم المساعدة الضرورية وفتح دور حضانة واستقبال للأطفال في عمر أقل من أربع سنوات. وبالفعل وضعت حكومة طوني بلير عام 1997 برنامجين خاصين بحضانة الأطفال: الاستراتيجية الوطنية للعناية بالأطفال، وبرنامج الانطلاقة الأكيدة. ويقوم البرنامج الأول باستقبال الأطفال حتى سن الدراسة، في أماكن خاصة بهم ترعاها الدولة. والثاني مخصص لأطفال الطبقات الاجتماعية الفقيرة التي تواجه صعوبات مادية ومعنوية، ويهدف الى تطوير قدراتهم النفسية والاجتماعية والجسدية. ويرافق البرنامج الأخير وسطاء اجتماعيون يشكلون صلة وصل بين الأهل والأطفال، كما يقومون بمساعدة الأهل. وبفضل هذين البرنامجين، استطاع 382 ألف طفل بريطاني الالتحاق بدور الحضانة التي تم انشاؤها منذ عام 1997. كما تضاعف عدد حدائق الاطفال بين سنة 1991 و2003 حتى وصل الى 3800 حديقة. وازداد عدد النساء العاملات بنسبة 770 ألفاً بين 1997 و2002. ومع هذا فإن دور الحضانة الخاصة بالاطفال دون 36 شهراً هي شبه موجودة في القطاع العام. وهناك 58 في المئة فقط من الاطفال في عمر ثلاث سنوات يذهبون الى دور الحضانة، بينما يذهب 65 في المئة من الاطفال في سن اربع سنوات الى مدارس حضانة رسمية. لكن هذه المؤسسات الرسمية الخاصة بالطفولة تستقبل الاطفال مجاناً لمدة 12 ساعة فقط اسبوعياً اي ساعتين ونصف الساعة كل يوم. ولا تجد الام العاملة مفراً من اللجوء الى دور الحضانة الخاصة التي تأخذ من العائلة البريطانية 30 في المئة من دخلها الشهري العائلة المتوسطة الدخل لذلك تفضل المرأة التي لا تملك تأهيلاً كافياً ولا تنال راتباً جيداً، اعتماد طريقة الدوام النصفي او البقاء في المنزل. اما معدل النساء العاملات من دون اولاد فيبلغ 72.4 في المئة بينما يصل الى 65.4 في المئة للامهات. ويترك ثلث النساء العمل بعد ولادة الطفل الاول. وتعمل 10 في المئة من الامهات لطفل واحد بدوام كامل. اما في المانيا الغربية فهناك ظاهرة مشابهة لما نجده في بريطانيا، حيث يطلق الالمان تسمية "الام الغراب" على المرأة التي تترك طفلها في رعاية مربية، وهذا يعني تخلي الام عن طفلها بكل انانية. ان هذه التسمية القاسية اضافة الى غياب وسائل الحضانة، دفعت النساء الالمانيات في نهاية الستينات الى التخلي عن الانجاب وذلك بنسبة 4 نساء من 10. كما نجد 40 في المئة من النساء حاملات الشهادات الدراسية العالية يفضلن البقاء من دون اولاد، وتعمل حوالي 50 في المئة من الامهات بدوام نصفي اي اقل من 20 ساعة اسبوعياً. والجدير بالذكر ان دور الحضانة الرسمية والخاصة في المانيا، لا تستقبل الا 20 في المئة من الاطفال دون سن 3 سنوات، وهناك 64 في المئة من الاطفال بين 3 و6 سنوات يذهبون الى حدائق الاطفال التي تفتح ابوابها بشكل عام، لفترة ما قبل الظهر فقط، اما المدارس الابتدائية والتكميلية فهي تعمل من الساعة الثامنة صباحاً وحتى الواحدة بعد الظهر فقط. والواقع ان العداوة بين الالمان ودور الحضانة الرسمية، هي نتاج لما ترمزه بالنسبة الى النظام التربوي والسياسي لالمانياالشرقية سابقاً، اي نظاماً اشتراكياً ترفضه دائماً الايديولوجية الالمانية الغربية. وحتى اليوم وفي المانيا الموحدة لا تتعدى موازنة حضانة الاطفال قبل عمر 4 سنوات نسبة 0.8 في المئة. اما السياسة الاجتماعية في فرنسا فأعطت الافضلية للأم العاملة، واعتمدت الدولة الفرنسية، منذ نهاية القرن التاسع عشر سياسة تشجيع المرأة على العمل اكثر من تشجيعها على الانجاب، وفي التسعينات ادى تطور سياسة ايجابية وفعالة لمصلحة المرأة العاملة الى ازدياد مساهمة المرأة في الحياة الاقتصادية خصوصاً بعد وفرة دور الحضانة العامة والخاصة في المدن الكبيرة. اضافة الى حدائق الاطفال المجانية. وتضاعفت دور الحضانة بين 1975 و1990 ما سمح للام لطفلين بالعودة الى العمل، وارتفعت نسبة الامهات العاملات من 66 في المئة عام 1982 الى 78 في المئة عام 1990. وفي بداية الثمانيات اخذت الحكومات الفرنسية المتتالية، من اليسار واليمين تعدّل في سياستها الاجتماعية، في مواجهة اقبال المرأة المتزايد على العمل والتضخم الكبير في مصاريف الدولة الخاصة برعاية الاطفال. وفي عام 1985 اقرت حكومة لوران فابيوس الاشتراكية راتباً خاصاً بالامومة للام التي تبقى في المنزل للعناية بطفلها، كما يسمح ايضاً للمرأة اذا انجبت طفلها الثالث بالعودة الى عملها اذا ارادت، كما تستطيع التوقف عن العمل لمدة 3 سنوات ثم العودة اليه. وفي عام 1994 اعطت حكومة آلان جوبيه الحق للام لطفلين بالتوقف عن العمل لمدة 3 سنوات ثم العودة اليه، شرط ان يكون عمر الطفل الثاني اقل من 3 سنوات. وقد استفادت من هذه المساعدة حوالي 140 الف ام في نهاية 1994 وتعدى العدد في نهاية 1997 النصف مليون امرأة. وبشكل عام يزداد في البلدان الاوروبية عدد الامهات العاملات سنة بعد اخرى، على رغم البطالة، وهذا التطور في عمل المرأة الام مستمر بغض النظر عن سياسة الدولة الاجتماعية