سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
سباق محموم بين القرار الفلسطيني المستقل ... والقرارات الاقليمية والدولية الاختراقية . اسرائيل أمام لحظة الحقيقة التاريخية : الدولة الفلسطينية او اللاسلام
"حتى لو انتخبنا الأم تيريزا كرئيس لفلسطين، سيجد الإسرائيليون طريقة لربطها بأسامة بن لادن". صائب عريقات لم يكن يمزح حين أطلق هذه المزحة. والأرجح أيضاً أن الاسرائيليين لم يضحكوا حين سمعوها، لأنهم غارقون حتى أذنهم هذه الأيام في البحث عن طريقة لربط محمود عباس الذي يقترب رفضه للعنف من رفض الأم تيريزا له ببن لادن. بالطبع قد لا ينجح الاسرائيليون في هذا المسعى كما نجحوا مع ياسر عرفات، حين أفشلوا كل محاولاته بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر 2001 للقفز الى القطار الأميركي المتجه لخوض الحرب العالمية ضد الارهاب. بيد ان هذا لا يعني انهم لن يحاولوا. وعلى أي حال، الشروط التي وضعوها لرفع "الحظر الصّحي" عن عرفات، هي نفسها التي يضعونها الآن لإقامة علاقات صحية مع عباس، وهي: وقف الانتفاضة بشكليها المسلح وغير المسلح، تجريد "حماس" و"الجهاد" و"كتائب الأقصى" من السلاح، ثم وهنا الأهم القبول بخطة ارييل شارون "غزة أولاً وأخيراً" كبديل أول وأخير ل"خريطة الطريق"، وخطة السلام العربية في قمة بيروت، وحتى اتفاقات أوسلو نفسها. وعلى أي حال أيضاً، هذه الأهداف الاسرائيلية القاتلة ليست خفية أو سرّية. فدوف ويسغلاس، الصديق الصدوق لشارون والمسؤول الأول عن تخطيط سياساته وتنفيذها، وصف بتفصيل شديد هذه الاهداف في مقابلته المثيرة الأخيرة مع "هآرتس". فهو شّدد على ان خطة فك الأرتباط في غزة، التي أقنع هو وشارون الرئيس بوش ومجلسي الكونغرس الأميركي بها، "هدفها في الحقيقة منع استئناف العملية السلمية، ووضع خريطة الطريق على رفوف النسيان، وحظر قيام أي دولة فلسطينية من أي نوع". ورداً على سؤال حول ما إذا كان الانسحاب من غزة قد يؤدي الى انسحاب أيضاً من الضفة الغربية، قال ويسغلاس: "في ضوء الشروط التي وضعها شارون لاستئناف المفاوضات، فإنه يتعّين على الفلسطينيين أن يتحولوا الى فنلنديين قبل أن يحدث ذلك. إن خطة غزة هي في الواقع محلول "الفورماديهايد" الضروري لضمان عدم وجود عملية سياسية مع الفلسطينيين". وكما هو معروف "الفورماديهايد" هو سائل يستخدم لحفظ الجثث. هذه التوجهات الصريحة أعادت إرساء هرم الجدل السياسي على قاعدته بعدما كان مقلوباً على رأسه: بدلاً من الحديث عن عدم وجود شريك سلام فلسطيني للإسرائيليين، بات الحديث الآن عن عدم وجود شريك سلام إسرائيلي للفلسطينيين. وهذا يعني، أو يجب أن يعني، الكثير بالنسبة إلى أبو مازن، خصوصاً وهو يحاول الآن إخراج الوضع الفلسطيني من نفق الفراغ الخطر الذي دخله مع رحيل عرفات. فكي يتمكن من القيام بذلك، يجب عليه أولاً أن يجري انتخابات عاجلة، ليس فقط لانتخاب رئيس جديد، بل أولاً وأساساً لانتخاب برلمان جديد. وكي تجري مثل هذه الانتخابات، سيتعّين على إسرائيل إتخاذ سلسلة إجراءات، منها سحب قواتها من الأراضي الفلسطينية التي أعادت احتلالها بعد إنتفاضة الأقصى، وتمكين الشرطة الفلسطينية من فرض النظام فيها، وإلغاء الحواجز العسكرية والقيود المفروضة على حرية حركة الفلسطينيين، والأهم الافراج عن مروان البرغوثي الذي تشير استطلاعات الرأي الى انه الزعيم الأكثر شعبية بين الفلسطينيين نال بين 20 الى 25 في المئة من التأييد حتى أثناء حياة عرفات. هل يمكن أن تقدم تل أبيب على مثل هذه الاجراءات لتسهيل مهمة ابو مازن الانتقالية؟ الاميركيون يقولون إنهم يريدون ذلك. والأوروبيون والعرب يضغطون من أجل ذلك. لكن ذلك لا يجب بالضرورة ان يؤدي الى استجابة إسرائيلية. فشارون قد يقدم على بعض الاجراءات التجميلية التي توحي بأنه يتجاوب مع شعارات بوش حول أولوية الديموقراطية الفلسطينية على الدولة الفلسطينية، لكنه لن يكون في أي حال في وارد السماح لعباس بالتحّول الى شريك سلام يحظى بغطاء تشريعي فلسطيني ودعم شرعي دولي. لكن، حتى لو تساهل شارون، ولو نسبياً، مع عباس في مسألة الانتخابات، فهذا لن يعني ضمان النجاح: إذ سيكون عليه أولاً وقبل كل شيء اقناع "حماس" و"الجهاد" بوقف العمليات العسكرية وإعلان هدنة مع إسرائيل، وربما المشاركة في الانتخابات. الشيء الوحيد الذي يعرضه عباس على هاتين الحركتين الإسلاميتين في المقابل، هو الشعارات المهمة المتعلقة بالوحدة الوطنية والسلام الوطني الفلسطنيين. لكنهما، وبعد رحيل عرفات، باتا يريدان ما هو أكثر من الشعارات، وأكثر مما يستطيع عباس أن يقدم: قيادة جماعية فلسطينية لا يمكن ان تقوم أصلاً إلا استناداً الى رفض اوسلو، وانتخابات تشريعية تسمح لهما باقتطاع حصتهما من التمثيل الشعبي. وسيكون عليه إبرام تسوية تاريخية سريعة بين "الحرس القديم" الذي يمثله هو و"الحرس الجديد" المتمثل بقادة الأجهزة الأمنية والميلشيات وكوادر "فتح" الشابة وعلى رأسها مروان البرغوثي. يقول خليل الشقاقي، مدير المركز الفلسطيني للسياسة وأبحاث الاستطلاع: "نجاح عباس في إقامة تحالف وطني جديد، سيعتمد على إطلاق سراح البرغوثي من السجن ومشاركته في السلطة. حينها ستكون ثمة فرصة أمام الوطنيين بعد الانتخابات لتشكيل حكومة ائتلافية بالتعاون مع المستقلين، فيما سيشكّل الاسلاميون معارضة قوية". بيد ان محللين فلسطينيين يشككون في إمكان موافقة واشنطن على مثل هذا الخيار، ربما لأنها تخشى أن تؤدي الانتخابات التشريعية الى إضعاف عباس ورفاقه في الحرس القديم، وإلى صعود الحرس الجديد ومعه الاسلاميون الذين سيحوزون حينذاك على صوت قوي في السياسات الفلسطينية. وضع خطط سريعة لمكافحة الفساد في السلطة الفلسطينية. للوهلة الأولى قد يبدو هذا الشرط الاخلاقي لزوم ما لا يلزم في لعبة الشروط السياسية. بيد ان الوقائع الراهنة في الواقع الفلسطيني تشير الى عكس ذلك. فالفساد الذي يخترق العديد من البنى والمؤسسات الفلسطينية التي ولدت من رحم أوسلو، يمثلّ الآن أخطر عقبة تقف الآن في وجه بلورة استراتيجية وطنية جديدة في الضفة الغربية وقطاع غزة وشهد الفلسطينون عيّنة مؤلمة على هذه الحقيقة المؤلمة، حين انفجرت الى العلن الخلافات بين السيدة سهى عرفات وبعض القادة الفلسطينيين، والتي تبيّن بعدها انها كانت تتويجاً لصراعات شخصية تدور رحاها منذ سنوات بين الطرفين. كما ثمة عيناّت اخرى لا تحصى حول تحّول بعض الأجهزة الأمنية الى مافيات أمنية تحصد ما يمكن حصده من المساعدات الخارجية و"الضرائب" المحلية، وحول انقلاب العديد من السياسيين الى مقاولين وسماسرة وفي بعض الأحيان وكلاء لمؤسسات إسرائيلية. عزمي رجب كان أول من درس هذه الظاهرة بعمق، وحذّر من نتائجها السلبية على العمل الوطني الفلسطيني. بيد أن تحذيراته ذهبت أدراج الرياح. فتقاسم الحصص في السلطة الفلسطينية بات هو القانون لا الجرم، وصراع الأجهزة الأمنية على المغانم والصفقات بات هو القاعدة لا الأستثناء. والآن، ومع غياب عرفات عن الساحة، ومع الأزمات الاقتصادية - الاجتماعية الطاحنة، قد يصل الصراع المكشوف على المغانم والموارد إلى ذروته، ما لم تتوصلّ المافيات المتصارعة الى صفقة تتوزع فيها الانصاب ب"العدل والقسطاس". لوحة حزينة؟ بالتأكيد. لكن كما قلنا ليس فقط لأسباب أخلاقية، بل أساساً لدوافع سياسية. لقد اعتاد جورج حبش ان يقول إن "من يقبض دولاراً واحداً كرشوة، يكون مستعداً لبيع وطنه برمته بشروى نقير". وهذا المبدأ، الذي بات الروح المحركّة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حصَّن أعضاءها من الكثير من المزالق السياسية والشعبية والأغواءات الشخصية، وجعل المجتمع الفلسطيني يمحض الجبهة ثقة لم يعطها للعديد من القادة الفلسطينيين. ويلخّص أبو أحمد فؤاد، أحد أبرز قادة الجبهة، طبيعة إطلالة هذه الأخيرة على العلاقة بين الاخلاق والسياسة بقوله: "المسألة الأخلاقية ضرورية في أي عمل سياسي، لأنها خيط الحرير القوي الذي يربط القيادة بالجماهير. اقطع هذا الخيط فينهار الرابط". ويضيف: "... وفي حركات التحرر الوطني، تصبح هذه العلاقة أخطر بما لا يقاس. إذ كيف يمكن لمناضل يضع روحه على كفه أن يتوجّه، مثلا، الى عملية استشهادية، فيما هو يشك بأن من أرسله فاسد أو يريد استثمار نضاله لبناء القصور والفلل وعقد الصفقات في الداخل والخارج؟". هذه الشروط الثلاثة، أي ترضية "حماس"، وارضاء الحرس الجديد، ووضع برنامج جدّي لمكافحة الفساد، تبدو بحد ذاتها مهمات صعبة، إن لم تكن مستحيلة. بيد انها، مع ذلك، ستبدو "تكتيكية" بسيطة إذا قورنت بالتطورات الجسام التي تجري الآن على قدم وساق في "المجال الحيوي" الإسرائيلي والعربي والدولي المحيط بفلسطين. 1- فعلى الصعيد الإسرائيلي، يبدو أن الدولة العبرية قطعت، أو تكاد، كل الجسور التي تربطها بفكرة الدولتين اليهودية والفلسطينية، لمصلحة دولة "يهودية جنوب افريقية" واحدة على كل أرض فلسطين، تحكم جزراً من البانتوستات الفلسطينية. قال نائب رئيس الورزاء الاسرائيلي أيهود أولمرت، الذي لا يمكن ان يوصف بأقل من كونه يمينياً توراتياً متطرفاً: "بعد 37 سنة من الاحتلال، باتت إسرائيل في نظر جزء كبير من العالم بلداً منبوذاً. إنها ليست بعد جنوب افريقيا العنصرية، لكنها حتماً من العائلة نفسها". وكتب الكاتب اليهودي الأميركي الليبرالي هنري سيغمان: "إحدى سخريات التاريخ أن اليهود - سواء في أميركا أو أوروبا أو إسرائيل - الذين لعبوا دوراً كبيراً لا يتناسب مع عددهم في معارك حقوق الإنسان والحريات المدنية، يدعمون الآن سياسات حكومة يمينية تهدد بتحويل إسرائيل الى دولة عنصرية. إذا نجح شارون في تحويل الانسحاب من غزة الى وجود إسرائيلي لا يمكن إقتلاعه في الضفة وهي نقطة ربما وصلنا إليها، فإنه سينتج حتماً نظاماً عنصرياً". وبالطبع، أبو مازن "الأوسولوي"، لا وجود له في هذه المعادلة الإسرائيلية الجنوب افريقية الجديدة. 2- وعلى الصعيد العربي، ثمة خطر حقيقي بأن يؤدي رحيل عرفات وسقوط اتفاقات أوسلو وغياب استراتيجية فلسطينية مستقلة جديدة، إلى استئناف من انقطع من تنافس الأنظمة العربية على النفوذ في الساحة الفلسطينية. وعلى سبيل المثال، ثمة من يرى الآن أن الأردن الذي يعتبر نفسه، لاعتبارات ديموغرافية وجغرافية، المعني الأول بالتطورات الداخلية الفلسطينية، سيرى فرصة ذهبية في غياب عرفات مصري الهوى وفي بروز قيادة جديدة أكثر انشداداً الى عمّان منها الى القاهرة. الأمير الحسن، ولي عهد الأردن السابق، دعا بعد ساعات من وفاة عرفات الى إحياء مشروع الفيديرالية الثلاثية الإسرائيلية - الأردنية - الفلسطينية. وعلى رغم ان هذا "مشروع استراتيجي" بعيد المدى لن يولد إلا في رحم المستقبل غير القريب، إلا أن معاودة طرحه في هذه المرحلة قد يكون مؤشراً على مدى اهتمام النخبة الحاكمة الأردنية بالتأثير على الأوضاع الجديدة في الضفة الغربية. وكان مثيراً، على أي حال، أن يستنتج الكاتب الأردني ناهض حتّر المؤيد لتوحيد العمل الشعبي الأردني - الفلسطيني بأن "القيادة الفلسطينية الجديدة ستكون أمام خيارين: إما الشلل للحفاظ على الوحدة الوطنية، أو الانتقال الى مواقع قرضاي أفغانستان أو علاوي العراق، أي بناء أداة فلسطينية للاحتلال الإسرائيلي في مواجهة المقاومة الفلسطينية. ونحن نتوقع يضيف الكاتب أن تدعم عماّن، وبقوة، هذه الحكومة في مواجهة "الارهابيين" كما تفعل الآن مع حكومة علاوي". وكما مع الأردن، كذلك مع سورية. إذ تجري أحاديث على قدم وساق هذه الأيام عن احتمال دعم دمشق سراً لجهود قد تبذل قريباً لإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس جديدة مستقلة عن سلطة اوسلو. والسيناريو هنا يسير على النحو الآتي: فاروق القدومي يطرح مشروعاً لفك الارتباط بين منظمة التحرير وبين السلطة الفلسطينية، تعود بموجبها الأولى الى ثوابتها الأولى وتعمل في الخارج. "حماس" و"الجهاد" تدعمان هذا التوجه وتعلنان استعدادهما للانضمام الى المنظمة. الأجنحة الموالية للقدومي في حركة "فتح" التي انتخب القدومي أخيراً رئيساً لها، و"كتائب الأقصى" تعلن أيضاً تأييدها لهذا المشروع. ثم يجري بعد ذلك فرز القوى الفلسطينية والعربية من جديد على أساس جبهتي الرفض والاذعان القديمتين. جاذبية هذا المشروع تكمن في أنه لا يدعو الى نسف السلطة الفلسطينية، بل الى تقاسم السلطة معها في الداخل والخارج. وتكمن قوته في أنه سيكون قريباً الرد الوحيد على تدمير إسرائيل مشروع الدولتين وتحويلها كل فلسطين الى جنوب افريقيا جديدة. لكن، هل ستتمكن سورية من رعاية مثل هذا المشروع الكبير، فيما هي قابعة تحت حصار كبير من جانب كل الاتجاهات؟ 3- وعلى الصعيد الدولي، كشف تطوران التوجهات الأساسية المحتملة لإدارة بوش- 2 إزاء فلسطين خلال السنوات الأربع المقبلة. التطور الأول كان استقالة كولن باول، الرجل الذي كان يوصف بأنه العاقل الوحيد بين جمهرة مجانين، أو المعتدل الوحيد بين عصبة متطرفين. ومع رحيله سيخلو الجو تماماً للمحافظين الجدد وزملائهم المحافظين القدماء لمواصلة سياساتهم التي تضع في سلة واحدة بن لادن وكل فصائل المقاومة الفلسطينية. باول كان وراء فكرة اللجنة الرباعية الدولية و"خريطة الطريق" التي انبثقت عنها. لكنه لم يقاتل من أجل فرضها على إدارته. لماذا؟ بعضهم يقول لأن طبع الجندي غلب تطبع الديبلوماسي، فمال هذا الجنرال العبقري، كما يوصف، الى إطاعة رئيسه العبقري في البيت الأبيض حيال سياساته الشرق أوسطية. وبعضهم الآخر يعتقد بأنه فضلّ طيلة ولاية بوش الأولى البقاء في منصبه على الاستقالة، كي يبقى هناك صوت عاقل يمكن ان ينصت إليه رئيس لا يسمع سوى موسيقى المارشات العسكرية. لكن، وبغض النظر عن الأسباب، يبقى أن باول فشل في تغيير السياسات الأميركية في فلسطين قيد أنملة، ولم ينجح سوى في إضفاء المعقولية على توجهات تبدو كاسحة في لامعقوليتها إزاء المنطقة. ماذا بعد باول؟ ما كان قبله. لكن هذه المرة ربما بقفازات ديبلوماسية أقل، وصلف قومي أميركي أكثر. فكوندوليزا رايس، خليفة باول، لن تكون أكثر من صوت سيدها بوش في السياسة الخارجية، تماماً كما كانت في رئاسة مجلس الأمن القومي. وبما ان بوش يعتقد بأنه لم يرتكب أي خطأ في ولايته الأولى في العراقوفلسطين، فإنه سيميل الى تكرار التوجهات نفسها في ولايته الثانية. هذا لا يعني أن بوش ورايس سيبدآن فوراً بإطلاق النار على أرجل الجميع. فكوندا بادرت فور إعلان فوز بوش في الانتخابات الى إعداد مذكرة لرئيسها، تدعو الى جعل السنوات الثلاث المقبلة "سنوات ديبلوماسية"، خصوصاً في العلاقة مع الاوروبيينو العرب والإسرائيليين. بيد أن هذه الفورة الديبلوماسية المرتقبة، والتي ستتمثل في جولة بوش الأوروبية والتحّرك الشرق أوسطي للخارجية، لن تكون أكثر من فورة فقاعات صابونية. إذ كل المؤشرات تدل على أن الامبراطور بوش الثاني لن يعطي الأوروبيين شيئاً غير الكلمات الجميلة حول سلام الشرق الأوسط والجولة الفلسطينية، وبالطبع لن ينحاز الى خياره المفضل في فلسطين محمود عباس على حساب طفله المدلل في إسرائيل ارييل شارون. والرهان هنا واضح: الحلفاء والخصوم، على حد سواء، سيكونون مضطرين لأن يتعاطوا مع اميركا، كما هي لا كما يشتهون هم. وطالما ان أميركا اختارت بوش على رغم رفض كل العالم له، فليس أمامهم سوى التأقلم مع هذا الخيار. كل ما هو مطلوب اميركياً الآن هو شيء من النشاط الديبلوماسي الحاذق، لجعل استسلام الحلفاء يبدو كسلام إرادي حققوه هم بأنفسهم، لا كحصيلة حرب إرادات فرضت عليهم. التطور الثاني كان قمة بلير - بوش في واشنطن، التي راهن كثيرون على أنها ستؤدي الى تغيير مواقف هذا الأخير الشرق أوسطية. فقبل توجه بلير الى واشنطن، كانت أوساطه في لندن تشيع بأنه واثق من تحقيق الأهداف الآتية: إقناع الرئيس بوش بإحياء عملية السلام في الشرق الاوسط، بإتجاه إقامة دولة فلسطينية "قابلة للحياة" أشدّد، قال بلير مرات ومرات "قابلة للحياة"، مصالحة الرئيس بوش مع فرنسا وألمانيا وباقي قادة أوروبا، أساساً من خلال جدول أعمال شرق اوسطي، و"توعية" الرئيس بوش على المخاطر الجمة التي بات يفرضها تغيّر مناخ الأرض على سكان الأرض. بيد ان بلير اضطر في واشنطن لبلع كل ما كان يرغي به ويزبد في لندن. فبوش رفض بتهذيب اقتراحه بعقد المؤتمر الدولي للسلام عن الشرق الاوسط، الذي كان يريده لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من سمعته في معركة الربيع الانتخابية الصعبة المقبلة. وهو قابل مطالبته له بالضغط على الاسرائيليين، بالضغط بدلاً من ذلك على الفلسطينيين، عبر دعوتهم الى اختيار قادة جدد يلتزمون الأجندة الأميركية - الاسرائيلية المشتركة خطة غزة، الجدار العازل، أولوية الحرب على "الإرهاب".... وهذا ما دفع "نيويورك تايمز" إلى القول إنه على رغم وعود بوش عن الدولة الفلسطينية، إلا أنه في الواقع لم يشر إلى أي تغيير في السياسة الأميركية. وهو ألمح الى أن كل شيء سيعتمد على ما إذا كان الفلسطينيون سيرفضون في الانتخابات "حماس" وباقي "المنظمات الأرهابية" المعادية لإسرائيل. هذا في حين لاحظت "فاينانشال تايمز" أن بوش كان غامضاً حيال فكرة المؤتمر الدولي للشرق الأوسط، وتجنب الرد على سؤال حول ضرورة تجميد المستوطنات الاسرائيلية أو ارسال مندوب خاص الى الشرق الاوسط. كل ما فعله، بدلاً من ذلك هو التشديد على تغيير المواقف الفلسطينية. هذه التطورات عنت شيئاً واحداً: واشنطن في مرحلة ما بعد عرفات، ستكون أكثر اندفاعاً بما لا يقاس، ليس نحو تحقيق السلام في فلسطين، بل نحو اشعال الحرب في فلسطين بين الفلسطييين. وهذا نهج يتطابق، على أي حال، أشد التطابق، مع استمرار أولوية الأمن والحروب في ولاية بوش الثانية. أين الروح؟ هذه المعطيات الفلسطينية والعربية والدولية تشير، من ضمن ما تشير، الى مدى التعقيدات البالغة التي تمر بها القضية الفلسطينية هذه الأيام. فهي على مفترق طرق ليس من المبالغة في شيء القول إنها تاريخية على رغم ان التاريخ يعيد نفسه دوماً في الشرق الأوسط. المخرج قد لا يكون سهلاً، لكنه ليس مستحيلاً، إذا ما نجح الفلسطينيون في استحضار روح أمضى الأسلحة التي زودّهم بها رئيسهم الراحل عرفات: الهوية الوطنية الفلسطينية. إذ هذه الروح قد تقنع الحرس القديم بتسليم الراية للحرس الجديد، وتسهلّ وضع الديموقراطية على رأس جدول أعمال كل الأطراف الوطنية كما الإسلامية، كما قد تساعد أيضاً على بلورة أدوار جديدة لكل من منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية بأقل الخسائر الممكنة بالنسبة إلى الوحدة الوطنية الفلسطينية. أما إذا وهنت هذه الروح، فسيكون الجسد الفلسطيني حينها مشرعاً أمام مختلف أنواع المباضع التي ستجعل فلسطين بؤرة الصراعات الاقليمية - الدولية، بدلاً من أن تكون بؤرة الصراع العربي - الاسرائيلي. الجميع في فلسطين والمنطقة العربية يصلي الآن كي تنتصر هذه الروح، بما في ذلك ربما روح الأم تيريزا التي استحضرها صائب عريقات أخيراً بعبقرية مشهودة